حكي فانات

لم يثنِني تفجير الشويفات عن ركوب الفان، مثل غيري من زبائنه. خضعت لمصلحتي الاقتصادية. ربحت الألف ليرة معركة الإرهاب ضد النقل المشترك. في اليوم الأول بعد حادثة الانتحاري الذي أنقذنا منه حسين مشيك، سائق الفان الذي ارتاب به، لم يكن الركاب كثراً. أصلاً، كان البلد مسموماً، لدرجة أن الناس عزفوا عن الخروج من منازلهم. لكن تحسن الوضع بعد يومين، وعادت الفانات لتخرج من الحمرا ساعة انصراف العمال والموظفين «مفوّلة».

أنقذنا حسين مشيك. دفع غالياً ثمن شجاعته في مواجهة الانتحاري. ولولا مكافأة القدير له على شجاعته بإنقاذه من الموت والإعاقة، لما خرج حياً من مواجهة كهذه. يفاجئنا أُناس مثل حسين. أشخاص على هامش المجتمع اللبناني يضحّون بأرواحهم من أجل سلامة الآخرين وأمنهم، من دون خطابات ولا نفاق تعايشي. جنود الجيش اللبناني وضباطه أيضاً، وخصوصاً اولئك الذين كان دوامهم على مدخل مدينة الهرمل المعلنة هدفاً للجماعات التكفيرية، كيف لا نفكر فيهم؟ يقفون هناك، في صف المواجهة الأول، كمن ينتظر قضاءً لا رادّ له، فيما تمسك أمهاتهم بقلوبهن الواجفة الوجلة. كيف نحميهم؟ لا بد من طريقة.
أفكر في رجال المقاومة أيضاً، أولئك الذين لا وجوه لهم، فيعود إليّ شيء من الثقة بالمواطن اللبناني وإلى روحي بعض الاطمئنان.
الخير لا يزال موجوداً. أعلم أن نشرة الأخبار تتحدث عادة عن الكوارث. هذه هي وظيفتها، وهذا هو مفهوم الخبر. ولكن، حين تفيض الأخبار المحزنة علينا لسنوات، يوماً بعد يوم، كيف نقاوم من دون أخبار جميلة كهذه؟ كيف نحمي عشبة الأمل الهشة؟ ربما كان علينا أن نخترع نشرة أخبار سعيدة لنرمم ثقتنا ببعضنا وتفاؤلنا بالحياة.
لم يفكر حسين مشيك لحظة اكتشافه أن من بجانبه انتحاري، في أن هذه القنبلة البشرية الجالسة بقربه قد تنفجر فيه. لكنها انفجرت. و.. نجا! أترقب في النشرات أخباره. حين قابلوه أخيراً، وكان قد أبلّ من جروحه، كدت ألمس الشاشة بحنوّ عرفاناً له بالجميل. هذا الشاب الجميل السمين بعض الشيء، أشبهه بـ«تختخ» بطل سلسلة الأبطال الخمسة التي كنا ندمنها صغاراً. انتظرت من يكرمه، لكن... لا شيء! لم لم يعلق له أحد وساماً؟ كيف نقبل أن لا يكافأ عمله الوطني الباسل، إن أردنا ترميم ثقة الناس ببعضهم، وبـ«ثوابت ما» تجمعهم تحت سماء هذا الوطن؟ ألا تليق الأوسمة إلا بالتوابيت؟
إذاً، عاد الفان يسير بنشاط على خطه، بالرغم من كل المخاوف. أُلفة مفاجئة ظهرت بين سائق الفان وزبائنه. نوع من تضامن أصحاب المصلحة المشتركة، يتفحصون مثله الركاب الجدد، ويمازحون بعضهم بدعابات تشي بخوف من أن يكون انتحاريٌّ ما بينهم. تنظر حولك وأنت محتجز في الزحمة، تتفحص السيارات العالقة وتسأل نفسك: إلى أين المفرّ إن كان هناك انتحاري قريب؟ تقرر تسليم أمرك لله، فوحده قد يخرجك سالماً من هنا.

محمد نزال

من طينة الشجعان المتواضعين، هو محمد نزال. الزميل الشاب الذي ارتأت محكمة ما معاقبته على كشفه فساداً، مؤكدة للمفارقة، ما توصل إليه تحقيقه. كان ضاحك السن وفي عينيه بريق من لا يصدق ما يحصل له. لم الاستغراب؟ قلت له. المحكمة منسجمة مع ذاتها. في الحقيقة، كنت سأُصاب بالدهشة، لو لم تثر قضيته كل هذا الغضب والاستنكار بين الناس. ما دام هناك صحافيون شباب مثل محمد نزال ورشا أبو زكي، ومواطنون ككل أولئك الذين استنكروا، ومسؤولون كشربل نحاس وحنا غريب ومحامون مناضلون كنزار صاغية.. فنحن بخير. صدقوني. «بعدنا طيبين»... والله!

البيسارية

العقاب الجماعي الذي أنزله بعض أهل البيسارية بعائلات الانتحاريين كان متوقعاً. ورغم ذلك، كان مفاجئاً: إقدام الأهالي على تلك الخطوة، يشير إلى السهولة التي صرنا نتقبل بها أعمالاً كهذه. صرنا جاهزين، خائفين من بعضنا. بلدية الحدث تعيد شراء عقار في نطاقها، من مستثمرين شيعة، لتعزيز نقاء المدينة الطائفي. حزب الله تعاون معهم على ذلك. ما اسم هذا؟ انسجام مع الذات؟ مع الاتفاقات السياسية؟ ما هو جوهر هذا التفاهم؟ الموافقة على الفرز الطائفي؟ مراعاة القوي ل «مخاوف» الشركاء؟ لا أعرف! الشُّراة الجدد للعقار «المسترد» الى حضن الطائفة العقاري، دفعوا فارقاً كبيراً في السعر. وبذلك، يكونون قد خسروا مرتين: وطنياً ومادياً. خسروا التنوع ودفعوا ثمن طائفيتهم. فليكن؟ وكيف يكون ذلك؟ فالحدث فُرزت. لا أحد قاوم ذلك من أهاليها. الآن يمكننا القول إن "كل" من فيها: عنصريون طائفيون أو راضون بالعنصرية، وبالتالي جبناء.
حسناً، وماذا عن عرسال؟ هل تطرد الإرهابيين منها؟ هل تفعل عكار بدلاً من طرد النازحين؟ هل يفعل مخيم عين الحلوة؟ إعلان العصيان المدني على الإرهابيين هو ما سينقذنا، لا الخوف. لكن أهالي الإرهابيين ليسوا إرهابيين، يا جماعة، حتى ثبوت العكس. أهالي العملاء ليسوا كذلك، حتى ثبوت العكس. ماذا؟ إنهم البيئة الحاضنة الأصلية؟ ففي عالم الغاب، لا يهجم الحيوان على حيوان آخر إلا اذا استشعر خوفه. ربما كان جبن الأهالي عن مواجهة التكفيريين باكراً في أحيائهم، هو العامل الأكثر فعالية في جعل بيئة الإرهابيين خصبة وفعالة، خاصة حين يتزامن ذلك مع اندثار الدولة، وسريان قانون الغاب. عندها: لا حول ولا قوة. لذا، لا تعاقبوا العائلات إلا بقدر ما تستطيعون معاقبة أنفسكم. فنحن جميعاً بصمتنا، مسؤولون!

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مغتربه مغتربه - 2/28/2014 2:14:41 PM

مقالاتك ست ضحي قريبه من القلب والناس وتعبر عن الواقع الاجتماعي والسياسي في هذا البلد العجيب الذي يسمونه وطن ! اسأل نفسي مرارا وتكرارا وطن لمن ؟؟!! أكيد ليس وطنا لسائق ألفان الشجاع حسين مشيك او لزميلك الجريئ محمد نزال. في مقالاتك سخريه لاذعه ممزو جه بهضامه تجعلني كل مره اضحك من قلبي بالرغم من الألم الذي يعبر عنه قلبك وقلمك. أشاطرك الحزن علي هذا البلد ، الذي كان يوما وطنا لي احبه. مع محبتي وتقديري لكل ما تكتبيه

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/1/2014 8:59:28 AM

القارئة المغتربة شكرا لك على رفعك معنوياتي في صباح هذه العطلة... فعلا.. مودتي ضحى شمس

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم