هموم غير مدبلجة

لم أحفل يوماً، في مراهقتي وصباي الأول، بعيد المرأة. كان موقفاً أقرب الى الصبا وطبيعتي التي يذهلها حتى المساومة على حق بديهي، وإلى كمية النفاق الممارس في هذه المناسبة والذي يفرغها من أي معنى. كنت أرى الى تلك الندوات الموسمية التي تظهر فيها نساء متوسطات العمر، من الأسر الطرابلسية المعروفة، ب «الشينيون التاريخي» للسبعينيات والثمانينيات، يحتللن مقاعد المحاضرات في حقوق المرأة، وهي مقاعد كن يجلسن فيها بضع مرات في السنة للموضوع ذاته، فلا أرى مناضلات فعليات، لا بل إني أحياناً لم أكن أرى بينهن حتى نساء. فالذكورية المتأصلة في تربيتنا، والتي من شأنها ترويضنا بتمارين الثقافة السائدة، أحالت تلك النساء الى مجرد ذكور، ابناء بررة للنظام السائد، نظراً إلى طريقة وصولهن الى تلك السلطة البسيطة التي هي تمثيل النساء في ندوة، عبر نفوذ عائلاتهن أو كونهن زوجات فلان، او لمجرد تمثيلهن لطائفة..

لكن، ومع العمر، وتعرّفي إلى مناضلات حقيقيات، والليونة التي يبثها تروّي العمر وسكون الهورمونات النسبي، هدأت «مواقفي» الراديكالية قليلاً، وتعلمت التروّي في اتخاذ مواقف متسرعة من أنصاف الثورات وأرباعها. تعلمت أن أرى الجزء الملآن من الكأس لأستطيع تحمل الوقت اللازم لملء الفراغ المتبقي منه بما يجب أن يمتلئ به.
هكذا، صرت أشارك، على حياء أيديولوجي، في تلك المناسبات. أنتقي الأقرب منها الى أحلامي وأنضم إليها. هذه السنة، وصلت الدعوات باكراً: فقد تداول الناس في لبنان وفي كوكب الفايسبوك، وللمناسبة عينها، ٣ حملات للاحتفاء بالعيد: الأولى عبارة عن فيلم قصير دعائي لفريق لبناني. صبايا وشباب صمموا حملة للدفاع عن النساء عبر دعوة الرجال الى «انتعال أحذية نسائية بكعب عال»، كان الشعار «ضع نفسك في حذائها». طبعاً المقصود من التعبير هو «ضع نفسك مكانها». لكن إدمان اللبنانيين على ترجمة الأفكار، من لغات العالم التي يحبوا أن يتماهوا معها لدرجة «التفكير» بواسطتها، الى اللغة الأم العربية، التي لا يتقنونها فعلياً، لأنهم لم يتعلموا حبها، لدونية راسخة أمام اللغات الاستعمارية، أضاف الى سطحية هذه الحملة... ضحالة إضافية مفجعة.
في هذا الاختصار للنساء بمنتعلات الكعب العالي، و«معاناتهن» في صعوبة التماثل مع موديلات الجمال النسائي المروّجة استهلاكياً خفة ما بعدها خفّة. خفّة تتفاقم لسبب وحيد: خطورة ومأساوية القضية التي تتناولها.
كان طبيعياً لمعانٍ مثل هذه، أن يصوّر الفيلم التضامني في... «مول»! فهل هناك كادر أنسب لمنتعلات الكعب العالي اكثر من مركز تسوق؟ هكذا، بدا الفيلم الذي يصور أولئك الشباب يمشون بكعوب عالية في «مول»، أقرب الى التضامن مع سيدات الشوبينغ منه مع المرأة في عيدها.
أما الحملة الثانية، وهي مترجمة أيضاً، لكنها أذكى بكثير من الحملة السابقة التي تستلهم حركة الأميركي فرانك بيرد، فقد اختارت أن تخاطب موضوع العنف الأسري، مستخدمة كليشيهات الحب وأساطيره التسويقية. وصاحب الحملة إيطالي، ناشط في موضوع التوعية الاجتماعية وله أعمال سابقة في موضوع المقاييس الجمالية المتشددة المفروضة على النساء وعارضات الأزياء، وهو المصمّم والرسام والمدوّن الإيطالي ألكسندرو بالومبو،
أنجز بالومبو مجموعة ملصقات بعنوان «أيّ نوعٍ من الرجال أنت؟»، تستلهم أيقونات أساطير الحب الكرتونية مثل «ذا سمبسونز»، وسندريلا وأميرها وكذلك بياض الثلج، وأوليف وبوبّاي البحار اللذيذ آكل السبانخ، وحتى «سوبرمان» و«المرأة الخارقة». هنا، نجد بياض الثلج مرميّة أرضاً، مع أثر كدمة سوداء على إحدى عينيها، والدماء تسيل من فمها. دماء تسيل أيضاً من فم سندريلا وأوليف (زيتونة زوجة بوباي) والمرأة الخارقة. وتحت اللوحة يكتب الرسام «لا للعنف ضد المرأة»، أو مجرّد كلمة STOP. اي اوقفوا العنف ضد المرأة.
اما الحملة الثالثة، وهي الأقرب الى همومنا المحلية غير المدبلجة، فقد كانت تظاهرة في المتحف، محورها إقرار قانون العنف الأسري، بدون التحوير الذي أصابه به ذكور مجلس النواب والطبقة السياسية اللبنانية المنافقة بمعظم رجالها ونسائها.
التظاهرة كانت بهيجة ببعض شعاراتها التي يمكن القول فعلاً إنها «صنعت في لبنان» من نوع «ما ريتك تقبرني»... التي تستلهم المفردة اللبنانية المشهورة وتلعب عليها.
على كل حال، فإن كل جهد مشكور، لكن لا يجب أن تسرق بعض الحملات التحريفية ولو من دون قصد من وهج الإنتباه للقضية الجوهرية وكل نشاط يصب فيها مباشرة. ولذا، فإني، وتبنياً مني لحق التشهير بالفساد، أقترح كنشاط دائم طوال أيام السنة، أن نضع قائمة بأعداء حقوق المرأة، نسمّيها مثلاً قائمة العار. ثم ننشرها على الفايسبوك، او في حملة إعلانية كنوع من العقاب. فمن غير الممكن انتظار جثة جديدة كل يوم من أجل التشهير بهؤلاء مناسباتياً. قد يكونون مشرعين أو نواباً أو ناشطين أو أطباء شرعيين أو قضاة أو شخصيات ذات سلطة روحية... أو حتى أمهات وآباء! لا يهمّ. المهم أن يكون الذنب ثابتاً عليهم، لتدرج أسماؤهم في هذه اللائحة.
الانبهار بالأفكار جيد بحد ذاته، لا بل مطلوب. ولكن علينا أن نخترع أفكاراً خارجة من إحساسنا الحقيقي بمعاناة نسائنا. ولمن يجادل في جدوى هذه الفكرة نسأل: ما الذي تعنيه فكرة السير بكعب عال لزوج منال عاصي مثلاً أو كريستال أو رلى يعقوب؟ ماذا تعنيه لتلك الضحايا الثلاث اللواتي دفعن حياتهن ثمناً لتخلّفنا وعنفنا؟ يا إلهي، أكاد أخفي وجهي خجلاً من كل تلك الخفّة.
المجتمع اللبناني يخطو أولى خطواته في تثبيت التشهير بالفساد كحق مواطني، لا بل كواجب علينا التحلي بالشجاعة الأدبية للقيام به. التشهير كدفاع عن النفس هو العنوان الأفضل برأيي لتحرك مثل هذا، وخاصة إن كان مقروناً بالتشهير الإيجابي، أي نشر لائحة موازية بأصدقاء حقوق المرأة، أولئك الذين قاموا بشيء ما حقيقي لخدمة قضيتها.
عندها ستصبح حملات مثل «كن في حذائها» أكسسوارات مهضومة، ومحتملة، لقضية حساسة يتمّ يتناولها بشكل جدي في مكان آخر.
وختاماً: كل سنة وأنتنّ سالمات من ... قبضات فوارس الأحلام.

يوتيوب فيديو
Uf Chou Laziz - Men in Heels
التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

نوال الشهرى نوال الشهرى - 3/21/2014 9:43:11 PM

اتفق معك تماما وجهة نظر تحترم مشكور كتير

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/17/2014 10:13:56 PM

شكراً ضحى شمس

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

نور الزهراء فاطمة نور الزهراء فاطمة - 3/12/2014 8:20:23 PM

بعد ال " كل عام و انتِ بخير " اود فقط ابداء فائق اعجابي بصوت قلمك الذي ينطق عنا جميعا بأسلوب ممتع واقعي . وبالعربي الدارج " عم تحطي ايدك عالوجع"! الله معك ! تحياتي.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/13/2014 10:26:03 AM

القارئة الكريمة: شكرا على تشجيعك. مودتي

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم