قبل ثلاثة أسابيع، عمدت مجموعة من الملثّمين إلى قتل مواطنين وإصابة ستة آخرين بالرصاص في أقدامهم في أحياء مختلفة من مدينة طرابلس. ظن كثيرون، يومها، أنها «دفعة» إضافية، ضمن الحساب الدمويّ المفتوح بين تكفيريي المدينة وعلوييها، إلا أن الغرف الأمنية لاحظت، وسط تكتم شديد، أن الضحايا هذه المرة لم يكونوا علويين، وتجمع غالبيتهم علاقة ما باستخبارات الجيش. أمس، أعلن الجيش في بيان رسميّ ان عبوة ناسفة، كانت مزروعة إلى جانب الطريق في منطقة البحصاص، انفجرت اثناء مرور دورية تابعة للجيش. في ظل معلومات غير أكيدة عن أنه الاستهداف الثاني للجيش، بالطريقة نفسها، خلال أقل من 48 ساعة، ما يؤشر إلى حجم التطور في المواجهة الطرابلسية الجديدة.

بين الحادثتين، يسجل ميدانياً انتقال الحرب، في شكل واضح وعلني، من مواجهة بين باب التبانة وجبل محسن، إلى مواجهة بين عشرات المجموعات المسلحة والجيش، واستهداف المسلحين المباشر للعسكريين وناقلات الجند والحواجز بقذائف «آر بي جي» والرمانات اليدوية والإنيرغا.
شعبياً، يسود الصمت مختلف المستويات المدنية، برغم استفادة المسلحين حصراً من هذا الصمت. سياسياً، اجتمع نواب المدينة و«اللقاء الوطني الاسلامي» و«فعاليات باب التبانة» في منزل النائب محمد كبارة، المناوئ للوزير اشرف ريفي، ليطالبوا بـ: أولاً، إعادة بناء الثقة بين أبناء المدينة والجيش، وهذا يجري عبر إجراء تحقيق شفاف عما يشاع (يشيعه المسلحون والمحرضون على الجيش) عن عمليات تصفية جسدية لعدد من المطلوبين، وإعادة النظر في الإجراءات الأمنية التي يتخذها الجيش في بعض الأحياء، وعدم إفراطه في استخدام القوة. وثانياً، تطبيق العدالة على كل المخلّين بالأمن «بدءاً» من المتورطين في تنفيذ التفجيرات الإرهابية في مسجدي التقوى والسلام.
أما ريفي، فكان يسرب، عبر وسائله المعروفة، مشروعه لحل يكاد يتطابق مع مشروع كبارة، يتجاهل خطر التكفيريين ووجود فريقين في النزاع التاريخي القائم بين جبل محسن وباب التبانة والاستهداف المباشر للجيش، ويطالب بـ: أولاً، انسحاب الجيش من باب التبانة تحت عنوان إعادة بناء الثقة مقابل تعهّده شخصياً إعطاء الجيش مهلة 24 ساعة للرد على مصادر النيران حين تأتي من جبل محسن باتجاه باب التبانة. ثانياً، تبديل قادة الاجهزة العسكرية والامنية وقادة الوحدات. وثالثاً، حل الحزب العربي الديمقراطي واعتقال علي عيد.
تزامن هذا كله مع ثلاث مفارقات حريرية: أولاً، شغل الجيش في مناطق نفوذ تيار المستقبل باعتصامات متفرقة وقطع طرقات وغيره، وتحميل نواب المستقبل المؤسسة العسكرية مسؤولية الضحايا الذين يسقطون في هذه المنطقة أو تلك. ثانياً، تمويه هوية من يقاتلون في طرابلس وإظهارهم بمظهر «عفاريت» مجهولي الهوية ظهروا فجأة، فلا هم مناصرون لتيار المستقبل بحسب الحريريين، ولا هم قاعديون بحسب الشيخ نبيل رحيم، ولا هم من مقاتلي المحاور بحسب ريفي. وثالثاً، نقل نحو مئتي مقاتل من الجبهة السورية بسيارات يدفع السعوديون ثمن وقودها إلى الأحياء الطرابلسية الشعبية. وبناءً عليه، تكون الصورة بناء على ما سبق كالتالي: ثمة جيش يستنزف في تظاهرات طيارة مسلحة على امتداد مناطق نفوذ تيار المستقبل على كامل مساحة لبنان؛ يقاتل في طرابلس أشباحاً يتمتعون ببيئة تحضنهم بصمتها؛ يطالب السياسيون بتغيير قادته في المعركة ويتبنّون حجة التكفيريين في التحريض عليه؛ ويغزو طرف خارجي صفوف المعتدين عليه ليس بالسلاح فحسب، بل بالمقاتلين أيضاً. وتطورت الحرب ضده، من الاستهداف بالأسلحة التقليدية إلى قتل مخبريه، واستهدافه بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة.
ما يحصل في طرابلس، هذه الأيام، ليس مجرد جولة قتالية أخرى. ما يقترحه تيار المستقبل، عبر كبارة وريفي، هو إعطاؤه في السلم ما عجز عن أخذه في الحرب: إعدام علي عيد، تنظيف المدينة من التكفيريين، تسليمه مختلف أجهزتها الأمنية، وإعلان حالة طوارئ اقتصادية فيها لضخ الأموال ومختلف المساعدات عبر نواب المستقبل ووزرائه طبعاً. وغسل المستقبل يديه من الإنهاك المبرمج للجيش في مناطق النفوذ الحريريّ مستحيل، لأن التظاهرات التي تخرج بتنظيم استثنائي في اللحظة الأمنية ـــ السياسية نفسها في أكثر من منطقة لا يمكن أن تكون مجرد تضامن شعبي عفويّ مع عرسال. وحتى حين حاول التكفيريون، ممثلين بأحمد الأسير، إنهاك الجيش بتظاهرات مماثلة قبل بضعة اشهر كان فشلهم واضحاً؛ إلا إذا كان تيار المستقبل مستعداً للاعتراف اليوم بأن ثمة طرفاً آخر قادرا على تحريك الشارع بهذه الطريقة في معاقله، وعندها يتعين على المجتمع الدولي وحزب الله البحث عن هذا الطرف وتحديده للتفاهم معه بدل إضاعة الوقت مع تيار المستقبل. أما «حصار» عرسال الذي يتذرّع به المستقبليون للتحريض والتهديد، فهو حصار أمني ـــــ لا غذائي أو اجتماعي أو اقتصادي ــــ يستهدف الحد من تسلل السيارات المفخخة من جرود عرسال إلى المناطق اللبنانية الأخرى، وهو ما يتجاهله نواب المستقبل بالكامل، مشيرين إلى أن حواجز اللبوة تستهدف عرسال، فيما هي تحمي البقاع الشمالي والضاحية من الاستهداف الانتحاري لها.
المعطيات الأمنية الجدية تشير إلى وجود مجموعتين رئيسيتين تقاتلان الجيش في طرابلس اليوم: تضم الأولى مجموع الداعشيين والنصرة والمولويين (نسبة إلى شادي المولوي)، وقد عُززت صفوف هؤلاء في اليومين الماضيين بأكثر من مئة مقاتل يفترض أن يلتحق بهم نحو مئة إضافيين فور مغادرتهم المستشفيات المختلفة حيث يتلقون العلاج. ويترأس الثانية عميد حمود، الحريريّ الهوى، الذي ما كان ليدخل المعركة لولا وجود قرار مستقبلي، من دون إسقاط المصادر من حساباتها أن «دفش» ريفي لحمود يرمي، ربما، إلى جر التكفيريين إلى معركة مع الجيش تنهيهم بالكامل وتريح المدينة منهم وتحقق المطلب الأميركيّ من السعوديين بإنهاء المجموعات التفكيرية خارج سوريا. ولن يكون ريفي مستاء، بحسب أحد الخبثاء، من أن يلقى حمود مصير التكفيريين انفسهم جراء محاولاته المستمرة اقتطاع جزء لنفسه من جبنة ريفي الشعبية والمالية.
يلعب تيار المستقبل بنار حقيقية. هو لم يشهر سيفه لقتال التكفيريين كما كان كثيرون يتوقعون، ولم يرفع الغطاء عنهم، بل يعرقل عمل الجيش، واضعاً عصياً متعددة في دواليبه. والأسوأ من هذا كله أنه يوفر الغطاء السياسي والسيارات والاستشفاء لتكفيريين لا يريدون سوى تفجير أنفسهم، ناقلاً بذلك الأزمة السورية بوضوح إلى الأراضي اللبنانية. لا معنى لكل ما تشيعه أدبيات المستقبل وحلفائه من اليوم وصاعدا عن تدخل حزب الله في سوريا؛ حزب الله يرسل مقاتليه من لبنان إلى سوريا، فيما تيار المستقبل يحضر المقاتلين من سوريا إلى لبنان. لا بدّ أن يلاحظ الرأي العام الفرق. كل تصريح حريريّ يصدر من هنا وهناك تتجاوز كلماته عبارة «هؤلاء تكفيريون يفترض بالجيش أن يتغداهم قبل أن يتعشونا جميعاً» هو مناورة حريرية ترمي إلى حماية التكفيريين وتبرير افعالهم وإطالة أمد الأزمة.

يمكنكم متابعة غسان سعود عبر تويتر | @ghassansaoud