تتقاطع أسباب مختلف المشاكل الاجتماعية الاقتصادية عند مشترك واحد أساس: تفكيك الدولة وإفراغ إداراتها، وتسخير القانون في خدمة فئة على حساب اخرى وخروج تشريعات الطوائف في الأحوال الشخصية عن نظام الدولة العام... «كل التجاوزات سببها غياب الدولة»، يقول جاد شعبان، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت ورئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية، التي أطلقت مشروع حملة «إعرف، تحرك، شارك: نحو تحرك مطلع في لبنان».
«هدف المشروع الأساسي إعادة الاعتبار إلى دور الدولة»، والإضاءة على القوانين ومشاريع القوانين المتعلقة بالمشاكل الاجتماعية الاقتصادية، وجعلها في صلب الخطاب العام، وتعميم «خطاب مناهض يذكّر بالحقوق الأساسية للناس»، يقول شعبان، منبهاً من «خطورة التركيز على الوضع الأمني والسياسي وتجاهل المسائل الحياتية»، و«تفريغ معنى العمل العام».
لا تستثني الأزمة الاجتماعية الاقتصادية الشاملة أياً من المناطق أو الشرائح الاجتماعية في لبنان، وتتجلى الأزمة تلك في مشاكل تواجه المواطن في جميع مراحل حياته، «من المهد إلى اللحد»، بدءاً بتفاوت الفرص في التعليم بين القطاعين العام والخاص، إلى تضاؤل فرص العمل وتفشي بطالة الشباب خاصة، وغلاء المعيشة وارتفاع كلفة السكن خصوصاً، والتمييز في قوانين الأحوال الشخصية وارتفاع تكاليف الإرث والزواج والطلاق، والقيود المفروضة على مشاركة المرأة في سوق العمل، وغياب الضمان الاجتماعي الشامل، وصولاً إلى غياب برامج ضمان الشيخوخة. تسعى «الجمعية الاقتصادية اللبنانية»، عبر حملة «إعرف، تحرك، شارك»، لتعزيز وعي المواطنين للمسائل الاجتماعية ـــ الاقتصادية التي تمس حياتهم، عبر بث ثمانية مقاطع فيديو تسلط الضوء على المشاكل المذكورة، وتبسّط المفاهيم الاقتصادية ذات الصلة، «للحث على التفكير»، و«إشراك المواطنين في ديباجة السياسات العامة عبر الاستخدام الاستراتيجي لمنابر وسائل الإعلام والاجتماعية»، و«تمكينهم من التحرك» عبر تزويدهم «المعلومات والأدوات اللازمة لانضمامهم إلى حملات المجتمع المدني».
ذوو الدخل المحدود يلجأون «إلى الصلات السياسية» لإيجاد الوظائف

الأرقام الصادرة عن البنك الدولي، التي تتناول البطالة في لبنان، «مخيفة»، يقول سامي عطالله، المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات. نسبة البطالة عالية جداً في لبنان، وخاصة عند الشباب، حيث تبلغ 24%، وتزيد آثار الحرب في سورية الأزمة في لبنان سوءاً، وخاصة بالنسبة إلى الشباب ذوي المهارات المنخفضة، فهؤلاء هم الأكثر تأثراً، يقول عطالله. شهد الاقتصاد اللبناني بين عامي 1997 و2009 نمواً بمعدل 3.7% سنوياً، فيما نمت فرص عمل بمعدل 1.1% سنوياً فقط، ما يؤشر إلى «مشكلة بنيوية»، يتابع عطالله، حيث الفجوة كبيرة بين 2500 أو3000 وظيفة يخلقها الاقتصاد سنوياً، والطلب على حوالى 30 ألف وظيفة سنوياً. وليست المشكلة فقط في عدد الوظائف المتوافرة، بل أيضاً في نوعيتها، يقول عطالله، فالوظائف التي يخلقها القطاع الخاص متدنية من ناحية الإنتاجية، والسؤال هو: هل المشكلة تكمن في أهلية نظام التعليم الجامعي، أم أن القطاع الخاص لا يطلب عمالة بمهارات عالية؟» «معدل التعليم في لبنان جيد»، لكن الفجوة كبيرة جداً بين نظامَي التعليم الخاص والعام، فـ«من يتعلم في المدارس والجامعات الخاصة يكتسب مهارات أكثر ويجد عملاً في الخارج في معظم الأحيان، بينما يواجه تلامذة القطاع الرسمي تحديات أكبر بكثير»، يقول عطالله، مؤكداً ضرورة وضع سياسات و«عمل الكثير» لإصلاح الخلل وسد الفجوة، ولا سيما في مسألة التمويل.
أظهر إسبتيان أجراه البنك الدولي حول كيفية إيجاد وظائف عمل أن 85% من المستطلعة آراؤهم قالوا «نستعين بالعلاقات العائلية والأصدقاء»، والنسبة تتطابق مع نتائج دراسات أخرى أجريت في لبنان، ما دفع المركز اللبناني للدراسات لإجراء دراسة لتدقيق معنى «العائلة والأصدقاء»، يقول عطالله، عبر توزيع استمارة لـ300 طالب جامعي، بغرض فرز «واسطة» الصلات الاجتماعية عامةً عن السياسية تحديداً في التوظيف، وأظهر الاستطلاع أن من يلجأ إلى «شبكة العلاقات والأصدقاء» هم أبناء العائلات ذات الدخل المرتفع، «وهذا أمر طبيعي جداً»، يقول عطالله، أما أبناء العائلات ذات الدخل المحدود، فيلجأون «إلى الصلات السياسية» لإيجاد الوظائف في القطاع الخاص تحديدا. الثقل الانتخابي للعائلة، ومدى طائفية الطلاب وعلاقتهم برجال الدين، «الوسطاء مع رجال السياسة»، هما المعياران الأهم لإيجاد فرص عمل في لبنان، و«الهجرة ليست محصورة بطائفة معينة بسبب الاضطهاد» كما يُشاع، والأقل طائفية هم من لا يجدون سبيلاً للتوظيف، فيضطرون إلى الهجرة، يستنتج عطالله.
صعوبة وصول المرأة لفرص العمل، وضعف قدرتها على التفاوض حول الأجر والترقية والوظيفة، مقارنةً بالرجل، ظاهرة موجودة في القطاع الخاص «غير الموضوعي، والخاضع لمزاجية رب العمل»، أكثر منها في القطاع العام، حيث النظام التراتبي محدد وواضح، ويصعب الخروج عنه، تقول سوسن المصري، منسقة المشاريع في منظمة العمل الدولية، وفيما لا يميز الدستور اللبناني بين الجنسين، بل يساوي في الحقوق والواجبات، يكمن التمييز في مسائل حق المرأة بمنح جنسيتها لزوجها وأولادها، وفي قوانين الأحوال الشخصية الطائفية، وخاصة في مواضيع الزواج والطلاق والإرث وحضانة الأطفال، حيث «تتحمل المرأة وزر الخلل في هذه القوانين».
«جرى تفريغ مشروع قانون العنف الأسري من مضمونه، بإعطاء صلاحيات واسعة للطوائف»، تقول المحامية نائلة جعجع، الناشطة في مجال الحقوق المدنية. النظام اللبناني مدني ومرتكز على حرية الخيار في قانون الأحوال الشخصية، لكن الأخير يصبح مذهبياً ودينياً في التطبيق، ولا مسوغ قانونيا يفرض على المشرّع مخالفة الدستور والقوانين وروحيتها المدنية «بإفساح المجال للتشريع الطائفي»، تؤكد جعجع، مضيفة أن التشريع الديني في مسائل الأحوال الشخصية، «باستثناء الدروز وطائفتين مسيحيتين، لا يخضع لأي نوع من الرقابة من قبل المشرّع المدني أو المحاكم الدستورية»، التي يُفترض أن يكون لها صلاحية مراقبة مدى احترام التشريع المذهبي لحقوق الفرد الأساسية.