هي حتماً مفارقة. لكنّها، بالتأكيد، ليست مصادفة أن يتزامن حدثان في لحظة واحدة: إنسانة سوريّة تضرم النار بجسدها جوعاً، ودزينة حكّام يغرقون في طنافس وثيرة في ما يسمى «جامعة دول عربية». أصلاً هي الصورة المزدوجة المنفصمة الأكثر تعبيراً عن واقع تلك البلدان ومأساة تلك الشعوب. ذلك أن للديمقراطية معايير كثيرة. تبدأ بما قبل تداول السلطة، ولا تنتهي بأولوية الحقوق الطبيعية للإنسان على كل قانون أو حتى دستور. لكن للاستبداد، في المقابل، سمة واحدة هي الأكثر وقاحة وصفاقة: أن يكون الحاكم متخماً والمحكوم مدقعاً.
هكذا هي بلدان أولئك الحكام. بعض التقارير الدولية المتخصصة، يشير إلى أن حجم الثروات الخاصة الموجودة في منطقة الشرق الأوسط، والمسجّلة داخل بلدانها أو خارجها، بلغ عام 2012 نحو 2.2 تريليون دولار. أي لمن لا يجيد علم الأرقام الخيالية، 2200 مليار دولار فقط. مع توقّع نسبة نمو لهذه الثروات تزيد على عشرة في المئة سنوياً. لتصير 3300 مليار دولار بحلول عام 2015. وتظل غالبية تلك الثروات الخاصة مخفيّة في مصارف خارجية. نظراً إلى هشاشة بلدان من يملكونها، وإلى خوفهم الدائم على ثرواتهم، كما يؤكد تقرير لمؤسسة «ماكينزي». هذه الحسابات المخفية في حصون مصرفية أو في مخابئ سرية أو جنات ضرائبية، جعلت مجموعة «بوسطن» الاستشارية تذهب أبعد في رسم الهوّة عندنا. تقول دراسة لها منذ عام ونيف إن حجم الثروات الخاصة في منطقة الشرق الأوسط أقرب منطقياً إلى رقم 4500 مليار دولار. الرقم نفسه اعتمده تقرير لمؤسسة «دبليو تي كابيتال مانجمنت».
أما لائحة الأسماء فتنسج حولها الروايات والأساطير. جاء في تقرير لإحدى المجلات المتخصصة قبل عامين، أن ثروة أحد حكامنا تقدر بـ 21 مليار دولار. وثروة حاكم آخر تقدر بـ 19 مليار دولار. ثم حاكم ثالث بثروة تقدر بـ 14 مليار دولار.
بعد انقلابات بعض البلدان العربية سنة 2011، انشغل العالم بظاهرة البحث عن الثروات المهربة أو المسروقة أو المنهوبة لحكّام سابقين. أو لزوجاتهم وأبنائهم، أو لمعاونيهم وزبانية حكم وحاشية بلاط. أحد هؤلاء المخلوعين نسجت حول بطانته العائلية والسلطوية، رواية عن ثروات مجمّعة تقدر بنحو 70 مليار دولار. إحدى المجلات الأجنبية أفردت صفحات لعرض عقارات لأحد هؤلاء، في باريس ودبي ومدريد وفرانكفورت ومصر و منهاتن وبفرلي هيلز.
حاكم آخر خُلع قبل أن يلقى مصيراً وحشياً، قيل إن تصفيته كانت مدبرة، للتعمية على مصير ثروته. وقيل أكثر، إن مصيراً مماثلاً سيلاقي كل المعنيين بما يملك، كي تضيع الأصول والحسابات. حتى أن وسائل إعلام مفترضة جدية، مثل صحيفة «فايننشال تايمز»، تحدّثت عن رقم 130 مليار دولار ضائعة من ثروات بلاده المختلسة. ثروات لا يستبعد بعض الخبراء أن تضيع. كما حصل خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها.
في هذه البلدان نفسها، يعيش أكثر من ثلاثة ملايين إنسان بين قبور إحدى العواصم. وينفق حاكم واحد 60 مليار دولار على صفقة تسلّح واحدة، اعتبرت صفقة العصر في فسادها وعمولاتها. ويحشد حاكم أربعة آلاف «خادم» لتمضية إجازته. وتبلغ ضريبة القيمة المضافة وحدها، على إنفاق حاكم في رحلة واحدة 160 مليون دولار. وفي هذه البلدان نفسها، يتنقل صحافي أوروبي حاملاً شريطاً وثائقياً صوره عن مذبحة العمال الآسيويين في إحدى عواصم هؤلاء الحكام. حيث يستورَدون بالآلاف، ويحشرون في مستوعبات معدنية للمبيت مثل البهائم. وحيث تقع بينهم معارك يذهب ضحيتها المئات كل عشية. قبل أن تطمر جثثهم صباحاً، ويستمر العمل على قاعدة أن أحداً لا يعلم. وفي هذه البلدان نفسها ينحدر المستوى التعليمي إلى ما دون بنغلادش. ويقوم أكبر فارق في تاريخ الأرقام، بين الإنفاق الصحي من جهة وجودة الاستشفاء من جهة أخرى. ولهذه البلدان بالذات تكاد تصبح متخصصة أو شبه حصرية، تقارير المآسي الصادرة عن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة أو منظمة الشفافية العالمية. وصولاً إلى البنك الدولي الذي يغازل من وراءه حكام تلك البلدان، فيما تقاريره تتحدث عن كون المواطن العربي هو الأكثر فقرا في العالم، مع أرقام من نوع: 75 مليون إنسان عندنا يعيشون تحت خط الفقر، ونحو 112 مليون إنسان عندنا يعانون سوء التغذية، ونسبة أمية عندنا تبلغ أكثر من 46 في المئة، وعدد أميين من البالغين عندنا يزيد على 70 مليوناً!
هي مفارقة لا مصادفة. فالمتربعون على تلك الطنافس لا يحملون اياً من الصفات التي يزعمون. لا «جامعة» هم. ويكادون يخفون تحت كل عباءة خنجراً. ولا «دول» هم. في غياب أبسط مقومات الدولة عندهم. فالنفط بديل الأرض، والرعايا بديل الشعب، والعائلة ــــ القبيلة بديل المؤسسات. ولا «عربية» في لغتهم وخطبهم المقروءة بجهد تلامذة الحضانة. ولا عجب، كونهم أكبر أميي ملاييننا السبعين.
تبقى العبرة لتلك الإنسانة السورية التي أحرقت نفسها. لا تحسبي لحظة أن أياً من هؤلاء قد أحس بنارك أو حرقك أو حرقتك أو جوعك أو وجعك. فهؤلاء بالكاد يُحسون بجلودهم «المتمسحة»، إذا ما أُحرقوا هم... مجرد فكرة، لاستخلاص العبرة اللازمة حول من يستحق الحياة، ومن يستحق الإحراق والاحتراق.