لفت الدكتور محمود جبريل الأنظار في نهاية السنة الماضية حينما رفض «جائزة القذافي التقديرية» التي أسندت إليه تقديراً لدراساته الاقتصادية والاستراتيجية، وتذرع بأسباب شخصية للاعتذار عن عدم قبول الجائزة التي تأسست سنة 1995، رغم أنها تعدّ أعلى جائزة أكاديمية يمنحها النظام الليبي لشخصيات ليبية وأجنبية بقيمة 200 ألف دولار. وجرى تفسير الأمر من قبل بعض الأوساط بأنه بادرة معارضة علنية لرجل عرف عنه أنه كان خلال عدة سنوات يدور في فلك النظام الليبي، وعلى مسافة قريبة جداً من نجل العقيد سيف الإسلام
، حيث أسس في سنة 2007 المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي الذي ركّز جهوده على تطوير مشاريع ثقافية تهدف إلى تأسيس بنية دولة ديموقراطية، وكان محسوباً على فريق سيف الإسلام القذافي الذي اعتبره إحدى المبادرات الرئيسية لبرنامج الاستراتيجية الاقتصادية. وقال سيف الإسلام في حفل التدشين «هذا المجلس يشير إلى إننا نسير الآن إلى الأمام نحو مرحلة العمل والتنفيذ من الاستراتيجية الاقتصادية الوطنية الخاصة بنا وبتشجيع لليبيين على أن يكون لهم دور فعال في برنامج التطوير». ووعد بأن تتناول الحملة الرئيسية الأولى للمجلس العوائق الأساسية أمام إقامة المشروعات، كذلك سيهدف إلى التطوير الاقتصادي لعملية التسجيل للأعمال التجارية الجديدة، علاوة على تمكين باعثي المشروعات الصغيرة والمتوسطة من الحصول على التمويل والاستشارات والتدريبات المهنية اللازمة.
المجلس الذي أنشئ بتمويل حكومي تولّى متابعة المستجدات في المنطقة العربية والعالم، إضافة إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية. ولكن جبريل لم يلبث فترة طويلة في هذا الموقع، فاستقال في سنة 2009 متذرعاً بالتفرغ لأعماله الاستشارية، حيث سبق له أن عمل لمدة طويلة في ميدان التخطيط الاقتصادي والتدريب، وقاد الفريق العربي الذي صمّم «الدليل العربي الموحد»، ونظّم أول وثاني مؤتمر للتدريب في العالم العربي عامي 1987 و 1988.
جبريل يعدّ أحد أبرز الخبراء العرب في التخطيط، ووضع عشرة كتب في هذا المجال، ودرّس هذه المادة في الجامعات الأميركية حيث تخرّج في جامعة بتسبيرغ في ولاية بنسلفانيا في سنة 1980وحصل على دكتوراه في الاقتصاد والعلوم السياسية، وتخصص في التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار.
من بين القادة الليبيين الجدد، كان جبريل الأكثر وضوحاً في التعبير عن صورة ليبيا المقبلة التي شرع في رسمها منذ أن بدأ يطل على المسرح الدولي في شهر آذار الماضي، حين اختاره المجلس الوطني الانتقالي ليرأس المجلس التنفيذي الذي يعدّ بمثابة حكومة انتقالية، وهو أولاً شرح رؤيته لهزيمة القذافي في مقال كتبه في صحيفة «نيويورك تايمز» في أيار الماضي، قال فيه «عندما اكتسبت المعارضة الليبية زخماً، توقع نظام العقيد معمر القذافي أنهاراً من الدماء ومئات الآلاف من القتلى بسبب الانتفاضة». وأضاف، في ذلك الوقت، «لم تكن هناك أشياء كثيرة تحول بينه وبين تنفيذ هذا التهديد. ولكن بفضل الإجراء الحاسم من جانب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، لا تزال الحرية تنبض بقوة في المناطق الليبية الخاضعة لسيطرة المعارضة». وإذ رأى «أن هذه حربنا»، فإنه نبّه إلى أن «هناك الكثير من المخاطر أمام المجتمع الدولي. وإذا توقفت الثورة الليبية أو هزمت، فسيمثّل العقيد القذافي ونظامه خطراً على العالم أكبر من أسامة بن لادن، وإذا انتهى النظام، فسيكون الوضع أفضل لليبيا، وسيكون العالم أكثر أمناً».
وبالنسبة إلى جبريل، لا تنحصر معضلة ليبيا في رحيل القذافي فقط. «عندما ينتهي القتال، سنواجه مهمة صعبة تتمثل في مداواة جراح دولة عانت من أعمال العنف على مدار عقود، وسيعمل المجلس على إيجاد مؤسسات تركز على حكم القانون، والبدء بمصالحة لتوحيد الليبيين في طرفي الصراع».
والمسألة الأكثر حساسية وصعوبة هي «في مسيرتنا من أجل الديموقراطية، يقوي من عزمنا إيماننا بالسلام والعدالة والمساواة. فقد علمتنا أيام العقيد القذافي المظلمة أن المجتمع الديموقراطي الحر القائم على نظام عدالة شفاف ونزيه هو الطريق الوحيد للمضي قدماً. وسنعمل من أجل ضمان انتقال سلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع ومن خلال مؤسسات قانونية. وسيكون أساس دولتنا دستوراً يكتبه الشعب الليبي ويقرّه عبر استفتاء
عام».
وظلت هذه الأفكار عناوين عريضة حتى بدأ جبريل يبلورها مع اقتراب ساعة الحسم. وفي جولة دولية له عشية معركة طرابلس شملت باريس ولندن وروما، أفاض في تقديم مشروع الليبيين في الحكم، وكانت مداخلاته مثار اهتمام المسؤولين في البلدان الثلاثة، الذين رأوا أمامهم رجل دولة من طراز مختلف. ولخّص جبريل مشروعه للحكم في أن «الانتقال يبدأ على الفور (...) نحن نبني الآن ليبيا جديدة، مع كل الليبيين باعتبارهم إخوة في أمة موحدة ومدنية وديموقراطية». وأضاف «ستجرى أول انتخابات دستورية، ولكن بانتظار ذلك، ندعوكم إلى أن تثبتوا أنكم أهل لهذه الثورة، وأن تبنوا بلداً جديداً». وعرض «الوثيقة الدستورية» التي تبنّاها المجلس الوطني الانتقالي الليبي (الهيئة السياسية للثوار الليبيين) منتصف آب. وحسب أوساط ليبية، فإن الذي عكف على وضع الوثيقة هو جبريل نفسه، وهي تنص على تسليم السلطة إلى مجلس منتخب خلال مهلة لا تتجاوز ثمانية أشهر، وتبنّي دستور جديد، بعد سقوط نظام القذافي. وأكد المجلس الانتقالي في وثيقته أنه «أعلى سلطة في الدولة (...) والممثل الشرعي والوحيد للشعب الليبي، ويستمد شرعيته من ثورة 17 فبراير»، مؤكداً أنه سينتقل من بنغازي إلى العاصمة طرابلس بعد إعلان التحرير. وبعد الانتقال إلى طرابلس، سيعيّن المجلس الانتقالي، في مهلة ثلاثين يوماً حداً أقصى، مكتباً تنفيذياً مؤقتاً، أو حكومة انتقالية مكلفة بتصريف شؤون البلاد. وستكلف الحكومة تنظيم انتخابات لاختيار «مجلس وطني» في مهلة أقصاها 240 يوماً (ثمانية أشهر) اعتباراً من تاريخ سقوط النظام. وسيكون المجلس برلماناً انتقالياً يضم مئتي عضو، وسينسحب المجلس الانتقالي من السلطة فور تولّي المجلس الوطني مهماته، وسينتخب المجلس الوطني رئيساً للحكومة خلال مهلة ثلاثين يوماً، على أن يعرض تشكيلة حكومته للحصول على ثقة البرلمان. كذلك سيؤلف «لجنة مهمتها صياغة الدستور الجديد» خلال مهلة ستين يوماً. وبعد دراسته وتبنّيه من قبل المجلس الوطني المنتخب، سيعرض في استفتاء خلال مهلة ثلاثين يوماً، ويجري تبنّيه بغالبية الثلثين. وفي الأيام الثلاثين التي تلي دورته الأولى، ستكون مهمة المجلس الوطني وضع قانون انتخابي جديد تمهيداً لتنظيم انتخابات عامة خلال 180 يوماً (ستة أشهر). وستكلف الحكومة تنظيم هذه الانتخابات «بشفافية وديموقراطية»، وستشرف الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى على العملية. ويفترض أن يقرّ المجلس الوطني نتائج هذه الانتخابات خلال ثلاثين يوماً، مع دعوة البرلمان الجديد المنتخب إلى الانعقاد في الشهر التالي، ما ينهي رسمياً المرحلة الانتقالية.
جبريل يدفع المجلس الوطني الانتقالي لينقل مؤسساته إلى العاصمة الليبية طرابلس خلال الأيام المقبلة، لكنه قال إن المجلس لا يمكن أن يقدم على أي شيء بدون دعم مالي. وحثّ المجتمع الدولي على الإفراج عن الأموال الليبية المجمّدة. ومن أولى وظائف الأموال التي أُفرج عنها في اجتماع باريس هي أن تتيح للمجلس إمكان بدء جمع الأسلحة من السكان وتقديم الخدمات الأساسية للمدنيين في البلاد. وحدّد المهمة الأساسية للمجلس، خلال الأسابيع المقبلة، بإحلال الأمن في
البلاد.
برز من الليبيين على المسرح العربي والدولي خلال معركة إسقاط نظام القذافي أكثر من وجه، لكن العالم توقف أمام شخصيتين هما رئيس المجلس الانتقالي، وزير العدل السابق مصطفى عبد الجليل الذي تصرف بشجاعة وحنكة وقاد الثورة بصبر شديد، والثاني هو رئيس المجلس التنفيذي محمود جبريل. والفارق بين الشخصيتين هو أن عبد الجليل أدى دور القاسم المشترك بين الليبيين، وكان قريباً من تفاصيل حياتهم خلال هذه المرحلة، وهو يحظى بتقدير شديد، لكونه أحد المسؤولين الذين تجرّأوا على الاستقالة من المنصب خلال حكم القذافي. هو رجل يمتلك كامل مؤهلات القيادة، ودوره لن يقف عند طيّ صفحة نظام العقيد وفتح صفحة جديدة. فليبيا الجديدة في حاجة ماسة إلى ورشة إعمار كبيرة ينهض بها رجال بناء ميدانيون، ووسط الخراب الكبير الذي خلفه القذافي يبرز على نحو خاص التناغم بين الرجلين، عبد الجليل في دور مايسترو ومحمود جبريل رجل الدولة من الطراز المدني، الذي يؤهله تاريخه ليتقدم إلى الأمام، حيث سبق له أن تولى تنظيم وإدارة العديد من برامج التدريب لقيادات الإدارة العليا في كثير من الدول العربية والأجنبية، منها مصر والسعودية وليبيا والإمارات والكويت والأردن والبحرين والمغرب وتونس وتركيا وبريطانيا.



مصري الهوى

حظي جبريل باهتمام خاص خلال زيارته الأخيرة للقاهرة، حيث ترأس وفد ليبيا لاجتماع وزراء الخارجية العرب يوم الأحد الماضي. وركز خلال لقاءاته وأحاديثه الصحافية على خصوصية العلاقات الليبية المصرية وضرورة أن تؤدي مصر دوراً متميزاً في مساعدة الليبيين على إدارة بلادهم، وتوقف خاصة أمام مسألة الأمن، ومن ذلك الحاجة إلى الاستعانة بشرطة عربية وإسلامية للحدّ من الفوضى التي تشهدها ليبيا. ولم يغب عنه الجانب الاقتصادي ومسألة عودة العمالة المصرية. وعدا ذلك، فإن جبريل مصري الهوى، فهو بدأ مشوار دراساته العليا من مصر في أوائل السبعينيات، وارتبط بهذه البلاد عاطفياً، حيث تزوج زميلته الباحثة سلوى شعراوي، ابنة شعراوي جمعة وزير داخلية عبد الناصر، وهي بدورها سيدة على صلة بالحياة السياسية المصرية، وكان قد عيّنها الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في عضوية مجلس الشورى سنة 2004.