لن يُحاسَب أحد. لا أحد مسؤول، أساساً، عن ثقوب الأرجل والطلقات الملونة بألوان الأشلاء والمحالّ المقفلة والمنهوبة والمحروقة. لا أحد مسؤول عن تنظيم قادة المحاور وتسليحهم وتمويلهم وتحريضهم.
ولا أحد مسؤول عن تضييع ست سنوات من حياة المدينة وتغطية عصابات الخوّات ومافيات البناء المخالف للقوانين والتشليح والتشبيح. يحاسَب، في لغة المدينة، من تجرّع دواء انتهت صلاحيته؛ لا من صنّعه وتاجر فيه. إنه العدل في حد ذاته؛ أن تهدم مدينة ثم تكرّم الآمرين بهدمها وتهرّب المنفذين. لا أحد يبالي بالمسؤولين الحقيقيين؛ المسؤولون سيعاد انتخابهم وتُكرّس مرجعياتهم. كان لا بدّ للطائفة السنية أن تخرّج أمراء حرب أهلية أخرى وتوزّرهم لكي تتساوى مع الطوائف الأخرى. تتجاهل الاستنابات القضائية من قال عن الفارّين الجدد من وجه العدالة إنهم «أبناؤنا الذين نفتخر بهم». وتتجاهل الكتلة النيابية التي تداعت إلى الاجتماع غداة توقيف شادي المولوي للتحذير من «الاستهداف الممنهج للطائفة السنية». لم يسبق للنواب خالد ضاهر ومعين المرعبي ومحمد كبارة أن حمّوا يوماً كل تلك الرؤوس الملتهبة وتصدوا لمحاولات القوى الأمنية لتوقيفها، موفرين كل احتياجاتها من حليب وبطانيات. ثمة من يفتح، إقليمياً، «باب الجهاد» ثلاث سنوات، واضعاً كل إمكاناته المالية والأمنية والتحريضية في تصرف «المجاهدين»، ثم يخيّر هؤلاء فجأة بين التوبة ونزع الجنسية؛ التوبة في طرابلس أو الاستنابات.
للاستنابات سحر، يقول أحد الوزراء، يكتشفه أحد زملائنا: كان يمكن الرئيس كميل شمعون أن يخوض ألف معركة عسكرية ولا يخترق حصن الرئيس سليمان فرنجية الزغرتاوي، أما الاستنابة القضائية فنفت فرنجية طواعية إلى اللاذقية. ودعك من الخصوم؛ لماذا تطعم «زلمك» جزرة تلو الأخرى، وقد باتت في يدك عصا وهم عزّل.
كان ثمة فريقان يخوضان القتال الدموي هنا: واحد يمثله النائب السابق علي عيد سياسياً وتظلل مرجعيته السياسية مقاتليه، والآخر يمثله الوزير أشرف ريفي سياسياً وتظلل مرجعيته السياسية مقاتليه. وكان يفترض أن تنعكس المعادلة الميدانية «لا غالب ولا مغلوب»، سياسياً أيضاً، لكن التسويات السياسية جعلت من ريفي وزيراً للعدل وعيد فاراً من وجه العدالة. «إنها حنكة مرجعيتيهما وتقديرها». أخذ الحريريون، مرة أخرى، في السلم ــــ على ما يقول أحد سياسيّي طرابلس ــــ ما عجزوا عن أخذه في الحرب. يغيب رفعت عيد والده ومعهما جبل محسن عن السمع لتأكيد أو نفي نبأ انتقالهما إلى سوريا، من دون أن تتوافر لأحد في المدينة معلومة ــــ لا تحليل ــــ عن المردود الذي حصل عليه النظام السوري مقابل إسقاطه سور حصنه الطرابلسيّ: البعض يقول إن تسريب نبأ اختيار عيد ونجله المنفى الطوعي استبق هجوماً سلفياً شاملاً على جبل محسن كان يهدد بحصول مجزرة مرعبة. والبعض الآخر يربط القرار السوري بسحب عيد بالقرارات السعودية بوقف تصدير القنابل البشرية إلى سوريا.
خسر حزب الله
ودمشق جبل محسن وخسر خصومهما المصنع الأكبر للتكفيريين
مع أخذ أحد الأمنيين في الاعتبار عدم حماسة حزب الله، منذ أكثر من عامين، لإبقاء الوضع الطرابلسي على ما هو عليه، بعد تحوّل جبل محسن من ورقة ضغط في يد النظام السوري إلى ورقة ضغط على حزب الله الذي يُهدَّد كلما حوصرت مجموعة تكفيرية في سوريا باختراق الجبل والتنكيل بأهله. مع العلم أن المناوشات استمرت عامين بين التبانة وجبل محسن، لكنها لم تتحول إلى معركة شاملة بين الجبل والمسلحين يستعمل فيها التكفيريون سلاحهم البشري الموجع. وأياً كانت النتيجة النهائية للمعركة الكبرى التي حال توازن الرعب دون وقوعها، فإن وضع الجبل بتصرف الجيش يرفع عن كاهل أهله حملاً أثقلهم، ويفك الحصار المفروض عليهم، وينهي لعبة «اللقيطة» في شوارع طرابلس، وينزع الذرائع لاستهداف العلويين في المدينة. ولا شك في أن إخراج آل عيد والآلة العسكرية العلوية من المشهد الطرابلسي، سيجعل المواجهات المستقبلية واضحة المعالم، وخصوصاً في حال تجدُّد الهجوم على الجيش والقوى الأمنية.
يظهر حزب عيد العربي الديموقراطي بمظهر المغلوب أمام ريفي، حتى تصل إلى الأحياء الشعبية التي تدعم. يضحّي رفعت عيد، في الشكل، بنفسه من أجل حزبه، فيما يضحي ريفي بحزبه من أجل نفسه، يقول أحد النافذين في باب التبانة. كلام زياد علوكي وزملائه أمام الإعلام عن وجوب توقيف من حرضهم ابتداءً من أشرف ريفي، ليس سوى جزء يسير مما يقوله الآخرون. لا يصدق هؤلاء أن السياسيين الذين كانوا يرجونهم قبل بضعة أسابيع للمرور عليهم خمس دقائق، يصفقون اليوم بهذه الحماسة لمذكرات التوقيف الصادرة في حقهم. تطاول الشتائم النائب كبارة قليلاً وتيار المستقبل أيضاً، إلا أنها تنصبّ على ريفي. ويصدف أن هؤلاء الحانقين بشدة على المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي هم عصب البيئة الحاضنة لزعامته الناشئة وحجارة زواياها والقاعدة الوحيدة التي يتكل عليها. ويشير أحد الأمنيين إلى محاولة ريفي فرض أمر واقع طرابلسي قبل نحو أسبوعين، يحول دون إيفاء تيار المستقبل بالتزاماته هنا، إلا أن رسالة سعودية حازمة وصلته بجدية المساعي لمحاصرة المجموعات المسلحة خارج سوريا والقضاء عليها، في ظل استنفار النائبين سمير الجسر ومحمد كبارة علانية والرئيس فؤاد السنيورة والوزير نهاد المشنوق سراً كل علاقاتهم لوضع حد لتنامي النفوذ الريفيّ على حسابهم. وسرعان ما بدا أن الضغط المستقبليّ ـــ السعودي يثمر، بحسب أحد نواب المدينة: طلب ريفي من أزلامه نزع صوره واللافتات المؤيدة له في طرابلس، تبعه إعلام من يصرف عليهم، قبل بضعة أيام، أنه الأجر الأخير؛ لأن الحنفية السعودية التي تصبّ عنده أغلقت، وهو تعهد الانضواء في آلية القبض والدفع المستقبلية.
لعقود كان الجبل المسلح حملاً ثقيلاً على ظهر باب التبانة التي تحوّلت من مظلومة إلى ظالمة ينوء الشمال كله تحت حملها الثقيل. يخسر حزب الله والنظام السوري بنقل جبل محسن سيادته من آل عيد إلى الدولة اللبنانية موقعاً عسكرياً لم تتضح يوماً الاستفادة الحقيقية منه، سواء لحزب الله أو للنظام السوري، مقابل خسارة خصومه المصنع الأكبر للتكفيريين في لبنان ومركز تدريب المسلحين وتصديرهم إلى سوريا.
قبل بضعة أسابيع، كان المقربون من الرئيس نجيب ميقاتي يتحدثون عن استعمال الحريري بعض من يصدقون زعمهم أنهم زعماء لتعبيد الطريق من الشمال لعودته إلى رئاسة الحكومة. كان كلامهم عن «مهمة قذرة» رفض ميقاتي تنفيذها يثير استغراب الأقربين قبل الأبعدين. إلا أن التجوال في طرابلس اليوم يبين حقيقة ما كانوا يتحدثون عنه: ليس المطلوب إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس حزب زعران المحاور والتكفيريين في طرابلس، فيذهب هو ويبقوا هم؛ المطلوب إلزام رئيس الحزب بفكفكة الحزب الذي يقوده وإصداره هو شخصياً مذكرات توقيف بحق محازبيه، فينتهي الاثنان لا أحدهما فحسب. صدقية ريفي التي جعلته زعيماً في أحياء طرابلس الشعبية على المحك. لا يجوز أن يفعل بأبنائه، الذين كان يفتخر بهم ويتوجس من ارتدائهم التنانير، ما يفعله اليوم بهم. هذا ظلم وهو وزير عدل. كيف يقبل هو أن يتساوى من كان يصفهم قبل أسابيع بالظالمين مع من كان يصفهم بالمظلومين؟

يمكنكم متابعة غسان سعود عبر تويتر | @ghassansaoud