القاهرة | بمشهد علوي لشاب نحيف بملابس بسيطة يدخل مقر الإذاعة المصرية عام 1951، قد تبدأ القصة. دخل الشاب مصافحاً كل من قابله، حاملاً بيده ملفّاً يحوي كل أوراقه التي تمتلك مقار الحكومة نسخاً أخرى منها. دخل في ممر طويل. قابل رجلاً فصافحه وتحركا سوياً إلى الاستوديو، ليبدأ الفتى قائلاً: «قصيدة «لقاء» للشاعر صلاح عبد الصبور، هغنيها بألحان زميلي كمال الطويل».
بمجرد أن انتهى من الغناء، وقف رجل بعين الخبير، وطلب مقابلته على انفراد، ليخبره بأنه لم يمنحه فقط تصريح الغناء في الإذاعة، بل أعطاه اسمه الذي لازمه طيلة عمره القصير. بمجرد سماع الإذاعي حافظ عبد الوهاب صوت الشاب عبد الحليم شبانة، قرّر أن يقدّم للمَجد عضواً جديداً في سجلّاته، وأن يقدّم الشاب إلى الجماهير حاملاً اسمهما معاً.
بالمشهد العلوي نفسه، خرج الشاب متحمّساً سعيداً لا تطيق قدمه لمس الأرض ولا إغلاق فمه من الابتسام ولا تحمّل الصبر. ذهب ليقابل أخته علية شبانة ليخبرها بما حدث تفصيليّاً، ثم هرع ليقابل الملحن محمد الموجي ليبدآ بصناعة أول أغنية يقدّم بها نفسه كمطرب إذاعي.
وبالفعل، في بدايات العام التالي لحصوله على إجازة الغناء في الإذاعة، جلست عليّة شبانة في منزلها إلى جوار جهاز الراديو، لتخترق أذنها نبرات المذيع المنضبطة المحافظة، قائلاً «الأغنية التالية بعنوان «يا حلو يا أسمر» من كلمات سمير محجوب، ألحان محمد الموجي، غناء عبد الحليم حافظ». كانت هذه المرة الأولى التي يبدأ المصريون يومهم بصوت عبد الحليم حافظ (21 يونيو 1929 ـــ 30 مارس 1977). لم تكن الأخيرة بالطبع، ولا يحتمل أن تكون يوماً ما.
كان عبد الحليم يعلم جيداً أنه لم يأت ليشغل مساحة زمنية قبل أن يخرج المطرب عبد العزيز محمود إلى خشبة المسرح وسط ترحيب رهيب من الجمهور. كان يعلم جيداً أنه لن يعيد إنتاج أعمال أحد، ولن يكرّر تجربة سابقة. من أجل ذلك، قرر أن يبدأ مشواره بالأصعب: أن يقدم نفسه بلا قشرة كلاسيكية، ولا ذرة استجابة لنغمة سائدة بين المطربين.
تعامله مع بليغ حمدي والأبنودي كان ذروة نضجه الفني
خرج للمرة الأولى أمام الجماهير عام 1952 ليغنّي «صافيني مرّة» (كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجي) ليحدث المشهد الذي كان لا بد له أن يحدث. قابله الجمهور بالسخرية والضحك بصوت مرتفع. تطوّر الأمر إلى إلقاء الورق والقمامة وأعقاب السجائر عليه ثم إلقاء المقاعد تجاه المسرح.
بمشهد علويّ ثالث، نرى هذه المرة الفتى ذاته مغادراً المسرح من الباب الخلفي ناظراً إلى الأرض التي تكاد تبتلع قدميه النحيفتين ليختفي وسط زحام السائرين ليلاً في شوارع القاهرة.
أثناء ذوبانه ذاك، ربما كان يفكّر بأنّه كان مخطئاً حين رفض منحة السفر التي حصل عليها بعد تخرجه من المعهد العالي للموسيقى العربية عام 1948، وربما تذكّر حزنه آنذاك إثر عودة الجيوش المهزومة من أرض فلسطين وسط نحيب الشارع المصري وإعلان الانسحاب. ربطه ذلك بتلك، جاء ربما بدافع إحساسه بالهزيمة والرغبة في الانسحاب، موبّخاً نفسه على إهدار أربع سنوات من عمره في العمل كمدرِّس للموسيقى في طنطا. المؤكد أنّه لم يعلم وقتها أنه سيأتي اليوم، حين يسمعه الجميع يغني «إبنك يا قدس لازم يعود على أرضها»، أو أنه سيجسد دور مدرّس الموسيقى البسيط في فيلم «شارع الحب» (1958). لم يربط بين ما مضى وما هو آت، لكنه لم يقلع عن الحلم ولم يخسر عناده الذي تميز به.
بخروج اللواء محمد نجيب وإلى جواره «البكباشي» جمال عبد الناصر عام 1953 لإعلان سقوط الملكيّة وقيام جمهورية مصر العربية، وإعلان بداية جديدة قد تحمل المزيد من الأمل إلى جوار أشكال جديدة من التحديات، قرر عبد الحليم أن يعيد تجربته مع الجمهور. وحين نقول إنّه قرر إعادتها، لا نتحدث فقط عن وقوفه بعناده وقوة شخصيته أمام الجمهور نفسه، وعلى المسرح عينه. بل نتحدث أيضاً أنه أعاد الأغنية نفسها بثقة أكبر، فاستقبلها الجمهور هذه المرة بالترحاب والتصفيق والتهليل.
يتكرر المشهد العلوي للفتى الذي يخرج هذه المرة وسط ملاحقة الصحافيين والمصوّرين والجمهور الذي كان النواة الأولى لمعجبين ومعجبات وصلوا إلى عشرات الملايين. لم يخرج الشاب هذه المرة وحيداً، بل إلى جوار مَن استهدفهم بفنه.
لاحقاً، تعاون عبد الحليم مع ملحنين كثر خارج متلازمة الموجي/ الطويل. تعاون مع «موسيقار الأجيال» محمد عبد الوهاب ليبدأ مرحلة جديدة وميلاداً جديداً لتجربته من خلال «أهواك» و«فاتت جنبنا» وأغنيات أخرى.
إلى جوار عمله في الغناء، خاض تجربة التمثيل مع فيلم «لحن الوفاء» عام 1955. كان يعلم جيداً كيف يصل إلى الجمهور من كل الجهات، فالحفلات لها جمهورها، والإذاعة لها جمهورها، والسينما لها جمهورها. ومن خلال أفلامه، قدم أشهر أغانيه التي يرددها محبوه حتى اليوم.
إذا قلنا إنّ المرحلة الأولى لـ«العندليب الأسمر» كانت من خلال متلازمة الموجي/ الطويل في الألحان بالإضافة إلى محمد حمزة وسمير محجوب على مستوى الكلمات، وأنّ المرحلة الثانية كانت من خلال تعاونه مع محمد عبد الوهاب، فإنّ المرحلة الثالثة والأهم التي شهدت ذروة نضجه الفنّي كانت من خلال متلازمة بليغ حمدي، خصوصاً التعاون مع الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي. يمكننا أن نسميها متلازمة الأبنودي/ بليغ.
بعد عودة الجيوش مهزومة إثر نكسة 1967 وتوغّل جيوش الاحتلال في سيناء والقدس، تكاتف الفنانون المصريون ليطوفوا العالم بحفلات راح عائدها إلى ما يسمى «المجهود الحربي» لدعم إعادة بناء الجيش المصري وتسليحه وإزالة آثار العدوان. خلال جولته، أقام عبد الحليم حفلة تاريخية في قاعة «آلبرت هول» في لندن. يومها، قدّر الحضور بأكثر من سبعة آلاف. وخلال الأمسية، قدّم أغنيتين جديدتين، أهدى إحداهن إلى القدس وهي «المسيح»، والأخرى إلى سيناء وهي «عدّى النهار». قدمهما بدموعٍ وحزن وإحساس شديد أدى إلى وضعهما كشعار للمرحلة آنذاك.
في بداية مشواره، كان عبد الحليم يشارك في حفلة بحضور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. وكان مقدّراً أن تبدأ فقرته بعد فقرة أم كلثوم. وكما اعتادت أمام عبد الناصر، أطالت «كوكب الشرق» فقرتها بالإعادة والسلطنة والاندماج حتى تخطت فقرتها وفقرته وقاربت الساعة الواحدة فجراً، حتى خرج عبد الحليم على الجمهور قائلاً «لا أعلم، هل أفرح لغنائي أمام عبد الناصر أم أحزن لأنّ فقرتي قد تم التعدّي عليها؟». ذلك القول حُسب كجريمة وقتها نظراً للهجته في الإشارة إلى أم كلثوم التي بلغت حدّ القدسية عند الشعب والقيادة السياسية وقتها.
أشعل هذا الموقف أزمةً كبيرة أدت إلى استدعاء عبد الحليم للتحقيق أمام النيابة العسكرية وأجهزة الأمن السياسي، إلى أن وصل الخبر لجمال عبد الناصر، فأمر بإغلاق الملفّ. وبعدها بسنوات، التقطت صورة لعبد الحليم يقبّل يد أم كلثوم حين تقابلا في مناسبة عامة.
لكن عنصر «الكيد» المعروف عن عبد الحليم لم يتركه. حين حلّ في لقاء تلفزيوني، سأله المذيع بنظرة مزاح قائلاً «من هي مطربتك المفضّلة؟». أجابه عبد الحليم ضاحكاً «الفنانة اللبنانية فيروز. نهاد حداد الشهيرة بفيروز». في يوم 30 آذار (مارس) عام 1977 وبمشهد علوي أخير، خرج عبد الحليم متمدّداً وسط 2.5 مليون مواطن حملوه على أكتافهم ليودّعوه الوداع الأخير.




«ضحك ولعب وجد وحبّ» اليوم في الـ AUB

لارا ملاعب

بدءاً من الثالثة من بعد ظهر اليوم، تنظم «دائرة اللغة الانكليزية» و«دائرة اللغة العربية» في «الجامعة الأميركية في بيروت» بالتعاون مع «دار نلسن» احتفالية خاصة بالأغنيات الرومانسية لعبد الحليم حافظ في الذكرى الـ 37 على رحيله. ما يميز «ضحك ولعب وجدّ وحب»، هو تناول مسيرة «العندليب» من مختلف جوانبها: عبد الحليم الصوت، الأداء، اللحن، والكلمة، ليكون معنا باقة من الاختصاصيين في المجالات الأربعة.
تأتي ترجمة بعض الأغنيات من قبل تلاميذ صف الترجمة في الجامعة الأميركية، للدلالة على أهمية الكلمة عند الفنان الراحل. تشارك في الحضور رلى بعلبكي (المشرفة على الترجمة) التي ستتحدث عن مخاض هذا العمل، والغنى اللغوي في هذه الأغنيات، إضافة إلى حضور رئيس «دائرة اللغة الانكليزية» ديفيد رزلي، ورئيس «دائرة اللغة العربية» ديفيد ويلمسون اللذين سيتطرّقان إلى تقنيات الترجمة وصعوبة نقل الصورة التعبيرية إلى اللغة الانكليزية.
سيتحدث أيضاً الكاتب شادي علاء الدين، والناشر سليمان بختي عن مدى اهتمام الفنان الراحل بالكلمة كما اللحن. الشاب اليتيم الذي جاء إلى وسط فني متقدم عليه في السن، كان يتسابق مع زملائه إلى أشهر شعراء عصره وملحّنيه أيضاً. ينتقي كلمات أغانيه باهتمامٍ بالغ، حيث يعود لصناع النبرة الشعرية كما يشير بختي، ليدوزن نَفَسه الأدائي على مضمون كلامهم العميق. كان يذهب أحياناً إلى تغيير بعض الكلمات لتناسب العقلية الاجتماعية لجمهوره. نعم. لم يكن صاحب «سواح» ليخاطر بنجاحٍ ضحّى لأجله كثيراً، ليخرج عن السرب ويقول «يا ولدي قد مات شهيداً من مات على دين المحبوب». يومها وافقه الشاعر نزار قباني في التعديل إلى «من مات فداء للمحبوب». لطالما عرف متى يكون ثائراً ومتى يكون ابناً مطيعاً للدولة ومتى يكون فناناً «فقط». أما عن الشق الموسيقي (لحنياً وأدائياً)، فسيتحدث المؤرخ الياس سحاب الذي عاصر الراحل وجمعته لقاءات عدة به. وسيكشف في الندوة شخصية ذاك الفتى الفنية التي التمسها عن كثب. سيحيي الاحتفال الفنان الملتزم سليمان زيدان الذي سيقدّم أغنيات لعبد الحليم، منها «صافيني مرة» و«قولي حاجة». تحية لهذا العندليب الذي سيطر رغم قصر عمره على جمهور النصف الثاني من القرن العشرين، ولا يزال طيفه يقف مع أطياف عمالقة ذاك العصر، كمرجع لهواة الفن ومحترفيه.

احتفالية «ضحك ولعب وجد وحبّ»: بين 15:00 و17:30 بعد ظهر اليوم ــ قاعة «وست هول» (الجامعة الأميركية في بيروت)



.