ثمة ظاهرة في النظام والسياسة اللبنانيين، باتت حصراً تقريباً على الموارنة. لم تعد موجودة لدى أي من الجماعات الأخرى، كبيرة كانت أو صغيرة. وقد لا تكون وجدت لدى تلك أصلاً من قبل. عند كل استحقاق رئاسي، يجد الموارنة أنفسهم بين إطارين ناظمين لحركتهم. بين بكركي كمكان وكمرجعية للبحث في الاستحقاق وبلورته ومحاولة إيجاد مخارجه. وبين العسكر، وتحديداً قائد الجيش، كخيار من الخيارات المطروحة.
أو حتى كخيار أخير للاستحقاق نفسه، يجنّب الموارنة المأزق، ويحول دون تحويل مأزقهم أزمة مسيحية عامة وبالتالي لبنانية شاملة.
هكذا يبدو الموارنة وكأنهم لا يزالون يعيشون في تاريخ مضى، وفي جغرافيا العولمة. والأكثر بداهة أنهم لا يزالون وحدهم يعيشون في تلك الحالة. مع المفارقة الأساسية في هذا المجال، أن تلك الجماعة نفسها، هي من ظلت منذ خمسة قرون على الأقل، منذ قيام نواة الكيان الأولى في القرن السادس عشر، أو منذ مدرسة روما سنة 1584 وحتى اللحظة، تدّعي لنفسها وتنسب لفكرها ودورها ورجالها، رسالة الحداثة والعصرنة ومواكبة التأوين في هذا البلد، لا بل حتى أبعد منه، وفق نظرية إشعاع ما يسمونه الحضارة المارونية!
مقارنة بسيطة مع أنماط تصرف الجماعات الأخرى مع استحقاقاتها «الرئاسية» تكفي لفضح الفارق الكبير. مع ملاحظتين منهجيتين لا بد من ذكرهما لمجرد الدقة العلمية: أولاً أن ليس لدى الجماعات الأخرى «إكليروس» بالمعنى المسيحي للكلمة. حيث لا طبقة دينية في الإسلام ولا رجال دين بالمفهوم التنظيمي الكنسي. بل مجرد موظفين لدى «الدولة» لا غير. كما هناك وزير ومدير وحارس، هناك كذلك مأذون ومفتٍ. أما الملاحظة الثانية فهي الفارق بين موقع رئاسة الجمهورية في النظام والدستور، خصوصاً لجهة آلية اختياره الصعبة وشبه التعجيزية، وبين «رئاسات» الطوائف الأخرى، من رئاسة مجلس أو رئاسة حكومة أو «الوزير الرئيس» لدى الجماعات الأقلوية المحرومة من الرئاسات الثلاث. حيث المهمة أسهل وآلية إنجازها في الدستور كما في الواقع تظل أقل صعوبة ومشقة وتقييداً بكثير من اختيار رئيس الجمهورية. لكن رغم هاتين الملاحظتين، تظل المقارنة فاضحة:
لدى السنة مثلاً، يمكن القول ان المرجعية الروحية ظلت إلى حد ما حاضرة في الحدث «الرئاسي» السني، حتى بداية الحرب. وقد يسجّل أن آخر تدخّل فعلي وحاسم لهذه المرجعية الممثلة بدار الفتوى، في اختيار «رئاسة السنة»، كانت مع إسقاط رئاسة أمين الحافظ. مع اندلاع الحرب، ورغم أسطورة قمم عرمون، غاب هذا الدور. لكن الأهم أن نهاية الحرب سنة 1990 كشفت لدى السنّة عن حياة سياسية «علمانية» بالكامل. وصولاً إلى لحظة بات يمكن الحديث فيها عن سيطرة المؤسسة المدنية لدى هذه الجماعة على المؤسسة الدينية. وأياً كانت الأسباب، يبدو جلياً ان السياسيين السنّة هم من يديرون شأنهم السياسي والوطني، لا «إكليروس» الطائفة. الصورة نفسها نجدها لدى الشيعة. رغم الكثير من الكلام ههنا عن موقع حزب الله وصفته «الدينية»، كما عن عزو ذلك إلى مرجعية دينية أعلى هي الولي الفقيه أو إيران. لكن بمعزل عن كل هذا الكلام، يظل ثابتاً أنه منذ غياب السيد موسى الصدر سنة 1978، صار الشأن السياسي الشيعي شأناً «علمانياً». لم يعرف يوماً أن المجلس الشيعي الأعلى تعاطى في انتخاب رئيس المجلس النيابي أو في اختيار مرشّح للمركز. ومرة جديدة، وبمعزل عن الفروقات المختلفة، يظهر هنا أيضاً أن السياسي هو من يدير الوطني. لا بل هو من يكاد يتحكم بالديني «الإكليريكي» إلى حد ما، أو حد كبير. وصولاً إلى الحالة الدرزية حيث تصير الصورة أكثر وضوحاً، فالبطريرك الموحّد للموحّدين، زمنياً وروحياً، سياسياً ودينياً، هو الزعيم السياسي. وصولاً إلى تكريس حق السياسي الدرزي في اختيار الإكليريكي الدرزي بموجب قانون حتى. أكثر من ذلك، هذا الواقع لجهة استقلال السياسي والزمني، وإملاؤه على الروحي والديني مصلحة «الجماعة»، بات موجوداً حتى لدى الطوائف المسيحية الأخرى. لدى الأرثوذكس والكاثوليك، ولدى السريان. وصولاً إلى شيء ما يشبه وضعية الدروز لدى الأرمن. وحدهم الموارنة يبدون قانعين قابعين في نمط من القرون الوسطى في هذا المجال.
ثم تصل إلى ظاهرة «العسكرة». هنا أيضاً، وباختصار شديد، لم يعرف يوماً أن هذه الظاهرة وُجدت لدى اي «قبيلة» أخرى غير الموارنة. لم يحصل مرة أن طرح اسم عسكري سنّي لرئاسة الحكومة، لأنه عسكري، أو لأن الجماعة عجزت عن اختيار سياسي لرئاستها. حتى سابقة نور الدين الرفاعي، سقطت سريعاً، لأنها خرقت مبدأ «مدنية» الرئاسة السنية، فضلاً عن خروقها الأخرى. ولم يحصل قط أن طرح عسكري شيعي لرئاسة المجلس النيابي. حتى ظاهرة ترشّح العسكريين للنيابة ظلت شبه معدومة خارج الموارنة. فيما هم يغرقون مع كل استحقاق في المزيد من «تطييفهم» و«عسكرتهم»، ودوماً تحت شعار إنقاذ الوطن وصيانة الميثاق وغيرها من الطروحات العملاقة لوضع مقزم ومأزوم.
صحيح أن تمييزاً يظل واجباً علمياً في هذا السياق، لجهة موقع بكركي في تأسيس لبنان، مقارنة بالمواقع الروحية الأخرى. كما لجهة موقع قيادة الجيش في وجدان الموارنة المريض المهيض، مقارنة بموقع اي منصب عسكري آخر مخصص لأي «قبيلة» لبنانية أخرى. لكن رغم ذلك يظل السؤال واجباً: من المسؤول عن هذا الواقع؟ طبعاً لا الإكليروس ولا العسكر. لا بكركي ولا اليرزة. فالاثنتان تملآن الفراغات وحسب، على قاعدة أن الطبيعة ترفضها. المسؤول هو عجز النخب المارونية وتخلّفها وسقوطها في ما يلامس السخافة والتفاهة. والمسؤول هو ما يشبه إفلاس الثقافة السياسية لدى جماعة كاملة. عجز وإفلاس، دفع الإكليروس والعسكر إلى مجال «التعاطي» و«الخيار». مجالان لم ينافسهما فيهما إلا جهة ثالثة، هي أصحاب الرساميل. وهؤلاء هم الأسوأ في هذا المجال، كما في كل مجال ربما...
أهضم ما في هذا الواقع، أنه يقال ان جواب تسعة على عشرة موارنة اليوم، حين تسألهم عن أفضل كاتب بالنسبة إليهم، هو «جبران». جواب تؤكد الوقائع والتجارب أنه مماثل لاختيار البرازيل في الفوتبول... لا غير!