(1) في التحليل الأخير، هناك ما يشبه الإجماع على أن رجب أردوغان، نجح في «استفتاء» الانتخابات البلدية، من خلال التحشيد المذهبي؛ واجه فضائح الفساد بخطاب عثماني متعصّب وعصبي، وحصل على أصوات الكتلة السنية. لقد خاض الانتخابات لا كاستحقاق ديموقراطي وطني، وإنما كمحطة في حرب أهلية وإقليمية.
وهو فعل ذلك، لأنه السبيل الوحيد للاحتفاظ بالسلطة في مواجهة معارضة واسعة متصاعدة، وجد أن المنافسة في ميدانها حول النزاهة والحريات والاقتصاد ومصالح الدولة التركية، خاسرة، فنقل الصراع إلى ميدان الهوية المذهبية ـــ السياسية، بين الأنا الأكثر تشدداً واحتقاناً، والآخر «الغريب»، داخلياً وخارجياً. وهو لم يكتف بالصراخ السيكوبائي لتأكيد تلك الأنا، بل شنّ هجوماً عسكرياً ــ بمشاركة التكفيريين ـــ على كسَب «الأرمنية»، باتجاه اللاذقية «العلوية». رسالته واضحة ـــ عززها تسريبٌ، الأرجح أنه مرتب، حول خطط التدخل في سوريا ـــ مفادها أن القيادة الأردوغانية هي الأكثر تصلّباً وإخلاصاً للمشروع العثماني المذهبي ـــ إلى درجة التحالف مع «القاعدة» ـــ ما يطيح بمنافسيه داخل المشروع (حركة الخدمة)، وما يحوّل المعركة الانتخابية إلى معركة وجود ضد «حزب البعث» التركي، أي حزب الشعب الجمهوري، بقاعدته العلوية، والحركة القومية، بقاعدتها العلمانية، وبطبيعة الحال، ضد العدو الداخلي التقليدي، الحركة الكردية.
هكذا يكون خطاب «حزب العدالة والتنمية» ـــ وجوهره التحديث النيوليبرالي للخطاب الإخواني ـــ قد سقط في الانتخابات ـــ الاستفتاء؛ فلم يعد خطاباً موجهاً لجميع الأتراك ــ بمن فيهم أكراد تركيا ـــ ويقترح أيديولوجيا بديلة عن الأيديولوجيا العلمانية، للحم وتحديث الدولة، بل تحوّل إلى خطاب مذهبي جزئي مفاده السيطرة على تلك الدولة، بما في ذلك اعتبار مواردها غنيمة مذهبية. بذلك؛ وصلت تركيا إلى مفترق طرق: انقلاب يطيح بتجربة الحكم الإخوانية أو صعود تمرّدين: التمرد الكردي القديم وتمرّد التكوينات الطائفية المنبوذة كعدوّ؛ أما العلمانية التركية، فستتمزق بين المتصارعين.
للعرب مصلحة استراتيجية في تشظّي الدولة التركية، وانكفائها إلى حدود الأناضول؛ فتركيا، سواء أكانت علمانية أم إسلامية، هي قوة إقليمية أطلسية ومعادية للمشرق العربي؛ تراه بلاداً انتزعت منها ينبغي استردادها وفضاءً لنفوذها المتعدد الأغراض. وفي ما يتصل بمصر، فهذا البلد المؤهل للقيادة السنية العروبية غير الطائفية، هو، بطبيعته، منافس عدوّ إلا إذا حكمه فرع إخواني منسجم مع القيادة التركية. وعلى هذه الخلفية، نكتشف الأساس المتين للتحالف التركي ـــ الإسرائيلي غير القابل للاهتزاز الاستراتيجي، كما نكتشف جوهر العداء الأردوغاني لمصر المتحررة من حكم الإخوان.

(2) في الشرق الأوسط توجد أربع قوميات أساسية: الترك والفرس والعرب والكرد. وتعيش معها قوميات واثنيات أخرى؛ الترك والفرس يهيمنان على دولتين قوميتين، بينما العرب يعيشون التجزئة في دول وطنية عديدة، أما الكرد، فموزعون بين تركيا وإيران والعراق وسوريا؛ لن نخسر شيئاً إذا اعترفنا بالحركة القومية الكردية، وحقها في إقامة دولة واحدة على الأراضي الكردية كلها؛ فكردستان العراق انفصلت فعلياً، وكردستان سوريا في طريقها إلى الانفصال، وعلينا أن نحوّل هاتين الخسارتين إلى كسب استراتيجي: الإخاء العربي ـــ الكردي، والإطاحة بالقوى الإقطاعية في كردستان العراق، والتسوية الودّية للخلافات على الأراضي، واجتذاب الكرد الموحدين إلى الخندق المعادي لإسرائيل. وحين يُعاد رسم خارطة الدولة التركية، فستنشأ ظروف ملائمة لاستعادة لواء الاسكندرون إلى سوريا.

(3) تركيا وإيران القوميتان يمكنهما أن تقيما نظامين اسلاميين، سنّي وشيعي؛ السبب الجوهري وراء تلك الإمكانية واضحٌ، ويكمن في امتلاك الترك والفرس دولتين موحَّدتَين، يشكل فيهما اتباع المذهب المسيطر، أغلبية. لكن ليس هذا هو حال المشرق العربي الموزع على خمسة كيانات، فيها، بتجزئتها، أكثريات وأقليات، تؤسس للصدام الطائفي والمذهبي المتصل بالدولتين القوميتين ـــ المذهبيتين في المنطقة. المشرق الموحَّد، بالمقابل، يتشكل من تكوينات ــــ متعادلة، وليس، بالضرورة، متساوية ــ لا تتغلب إحداها على الأخرى، وتؤسس لنظام علماني لا يقع في باب الخيار وإنما في باب الضرورة الوجودية، وتنشئ قوة إقليمية موازية، في الامكانات والقدرة، لتركيا وإيران، بل تستطيع أن تنتقل من التأثُّر السلبي إلى التأثير الإيجابي بقيادة المنطقة كلها نحو العلمانية، وتحديث الخليج وحمايته، والتحالف مع مصر، ومساعدتها على النهوض، واستعادة عرى الوصل السياسي والتنموي والثقافي مع المغرب العربي.
لا يمكننا أن نبقى في حال الغساسنة والمناذرة، في وضع التبعية والعجز والتخلّف والتقاتل الطائفي والمذهبي والكيانيّ. والبديل ليس طوبى خيالية؛ فإذا اتحدت سوريا والعراق، لن يكون هناك مفر للبنان والأردن والفلسطينيين من الاندماج في هذا الاتحاد الذي ستكون المواجهة الشاملة مع إسرائيل على رأس جدول أعماله.
وهو ما يجعل التحالف مع إيران، على رغم الخلافات في المصالح الجزئية، ممكناً؛ فللدولة القومية الإيرانية، على العكس من التركية، مصلحة استراتيجية في زوال إسرائيل التي تشكل التهديد الرئيسي للصعود الإيراني؛ إيران مستقلة فعلاً لا شكلاً، وجمهوريتها ناشئة عن ثورة معادية للإمبريالية، وهي تملك الإمكانيات التنموية والدفاعية، لتغدو قوة دولية في مسار تتحداه إسرائيل، وترفضه تركيا، ولكنه ملائم للنهوض العربي.