صدر قانون البناء المعمول به حالياً، في الجريدةِ الرسميّةِ في العدد 66 بتاريخ 16 كانون الأول 2004. وهو تعديلٌ للمرسومِ الاشتراعيِّ الرقم 148 الصادرِ بتاريخ 26/9/1983. في القانونِ الحاليِّ أربعةُ فصول، وتسعٌ وعشرون مادة. وينحصر اهتمامُنا بالفصل الثاني وبمضمونِه المهم، وهو «الشروط الفنية للبناء»
مدى وقوع النظر

نقرأ في المادةِ الحادية عشرة، أن الغرف المعدَّة للسّكن، أو للإقامةِ نهاراً، أو ليلاً ونهاراً، يجب أن يكونَ لها مَدى وقوع نظرٍ واحدٍ على الأقل، على طرقاتٍ أو على فُسح... وقد حدَّد شروطَ هذا المدى، المرسومُ التطبيقيُّ للقانونِ، الصادر بتاريخ 12/12/2005. ومدى وقوع نظرٍ واحدٍ على الأقل هو، أن يكونَ للغرفةِ المعدَّة للسكنِ أو للإقامة، نافذةٌ تُطِلُّ على طريقٍ أو شارعٍ أو فسحة، وتُدخِلُ إلى الغرفةِ الهواءَ والنور، وتُوصِلُ ساكنَها بالحياةِ التي تُحوطُه خارجَ الغرفة. غرفةُ السكنِ هي نقيضُ السجن. ومدى وقوع النظرِ أي النافذة، هو صنو الحياةِ الحرّة.
ثم نقرأُ في فقرةٍ ثانيةٍ من المادةِ ذاتِها، وتحتَ عنوانٍ لافت، لا تُعد غُرفاً يجبُ لها مدى وقوع النظر. الحمَّامات، وبيوتُ الخَلاءِ، والممراتُ، وغرفُ الكَيّ، وغرفُ المونة، وغرفُ الخدم، وغرفُ الغسيلِ والمطابخ... شرط أن لا تتعدَّى مساحةُ كلٍّ من غرفِ الخدمِ والمطبخِ ثمانيةَ أمتارٍ مربعة. غرفةُ الخادمةِ أو غرفةُ العاملةِ في المنزل، ليستْ غرفة معدَّة للسكنِ وفقَ الفقرةِ السابقةِ من المادةِ ذاتها. ولا ضرورةَ لأنْ تكونَ لها نافذةٌ تُوصِلُها بالحياةِ خارجها. لا الهواءُ الطبيعيُّ ضروريٌّ لها. فالتهويةُ عَبْر مروحةٍ وقسطلٍ لا يتعدى قطره 30 سنتمتراً. ولا النورُ الطبيعيُّ ضروريٌّ لها أيضاً. تُمضي العاملةُ نهارَها وليلَها دونَ أن ترى الضوءَ الطبيعيّ. الكهرباءُ أو الشمعةُ، وحدها متاحة.
الفقرةُ المذكورةُ من المادةِ لا تَعتَبرُ العاملةَ في البيت إنساناً، من حقِّها أن تعيشَ في غرفة لها نافذة. غرفتُها زنزانتُها، وهي ليست معدّة للسكنِ وفق النصِّ الصريحِ للقانون. إنها سجنٌ انفراديٌّ. وكذلك المطبخُ الذي تعملُ فيه، فهو أيضاً بلا نافذة. تنتقلُ العاملةُ في المنزلِ وفقَ القانون، من زنزانةٍ إلى أخرى. نصٌّ عنصريّ، من المَعيبِ أن نَجِدَه في قانونٍ للبناءِ موقَّعٍ من رئيسِ الجُمهورية، ومن رئيسِ مجلس الوزراء، ومن وزيرِ الأشغالِ العامةِ والنقل. ولا هاجس لكلِّ هذه العنصريَّة سوى تسهيل مهمَّةِ تاجر العقاراتِ المبنية، كي يَدفنَ العامِلَة في المنزلِ في الفضلاتِ المجاليَّةِ الخَانِقةِ، التي يسمِّيها المعمارُ ريم كولهاس «جَانْك سَبايْس».
■ تُحدِّدُ المادةُ الثانية عشرة من القانونِ، وهي بعنوان تراجُع الأبنية، مقدارَ تراجُعِ المبنى عن حدودِ الشارعِ أو الطريق، ربطاً بعرضِ هذا الشارعِ أو الطريق، وبتصنيفِه طريقاً للسير السريعِ «أوتوستراداً، طريقاً دولياً، طريقاً رئيسياً، طريقاً محلِّياً، طريقاً داخلياً... إلخ»، لكنّها لا تُلزِم مالِكَ العقارِ هذا التراجُع كتراجعٍ أقصى، بحيثُ يتوحَّد ارتفاعُ المباني بموازاةِ الشارع، راسماً ما يسمِّيه الغربُ واجهةَ الشارعِ أو جدارَ الشارع، ومنتِجاً وفقَ المفهومِ الغربيِّ ذاتِه، منظورَ الشارع، بل يتراجعُ مالكُ عقارٍ كبيرٍ أكثرَ من التراجُع الإلزامي، مشيِّداً في المكانِ بنياناً عمودياً أكثر ارتفاعاً من المباني التي تحوطُه، مشوِّهاً المنظورَ، دونَ أية ضوابطَ في استعمالِ التراجُعِ الإضافيِّ لتحسينِ الحيِّز العام. إنه التحفيزُ، بلغة القانونِ، ليَبني التاجرُ بحريَّةٍ ما يُريد، ودفعٌ صريحٌ باتجاهِ الملكيَّة العقاريَّة الكبيرةِ والبنيانِ العموديِّ، دونَ الاكتراث ببديهياتِ التنظيمِ المدنيِّ بمفهومِه الغربيِّ الذي نَعملُ به.
المادة الثالثة عشرة، ارتفاقاتٌ خاصة. فتُصبِحُ الفقرةُ الخاصَّة في هذهِ المادة، والمتعلِّقةُ بالمنظوراتِ المعماريَّة بدونِ معنى. لا بل يُصبح التنظيمُ المدنيُّ في جوهَرِهِ بدونِ معنى، إذ لم نرَ رفضاً لرخصةِ مبنى هو بأحجامِه، وبقياساتِه، وبموقِعه، مُضرٌّ بالصحَّة العامةِ، وبالبيئةِ، وبالمنظوراتِ المعمارية.

زيادة الاستثمار العقاري

المادة الرابعة عشرة: معدَّل الاستثمار السطحي وعامل الاستثمار العام. لن نعرِّفَ في هذه الفقرةِ، مقولتي «المعدَّل» و«العامل» في مسألةِ الاستثمارِ العقاريِّ، بل سنتوقَّفُ عند الطُرقِ الملتَوِيَة التي لجأ إليها القانونُ الجديدُ، لزيادةِ الاستثمارِ العقاريِّ في «المعدَّلِ» وفي «العامل».
المادة 11 لا تَعتَبرُ العاملةَ
في البيت إنساناً بل سجيناً في زنزانة

1. فكلُّ قوانين البناءِ السابقةِ، لحظَت مساحةً للشرفاتِ لا تُحتَسَبُ في الاستثمارِ، ولا تتعدَّى الـ 25% من عامل الاستثمار العام، و20% من معدّل الاستثمار السطحيِّ للمساحة المصممة، مشترطةً أن تبقى الشرفاتُ شرفاتٍ فعليةً أي غير مُقفلة. فهي أحيازٌ انتقاليَّةٌ بين الداخلِ والخارجِ، تتلاءَم مع مناخِنا، ومعَ طريقةِ عيشِنا وبنيةِ مُجتمعاتِنا. ولحظَتْ عقوباتٍ على كلِّ مالكٍ يُقفلُ شرفاتِ منزلِه أو مبناه، أقلُّها إِلزامُهُ إزالة كلِّ إقفالٍ لأيّةِ شرفة. أما القانونُ الحاليُّ، فقد شرَّع إقفالَ الشرفاتِ بالزجاج، وصارَ إقفالُها نهجاً يعتمِدُه كلُّ معمارٍ عندَ رسمِهِ لخَرائطِ المبنى. أضافَ القانونُ إذاً إلى المساحةِ المصمَّمة 20% منها، ووحَّد صورةَ المدينةِ خلفَ جدرانٍ زجاجيةٍ تغلِّف كلَّ الشُرفاتِ. وفرضَ تُجُّارُ البناءِ على كلِّ الناسِ بقِّوةِ القانونِ، نَمطَ حياةٍ جديداً، أُلغيتْ فيه الشرفةُ كلياً، وغابَ التخاطُبُ عَبْر الشرفاتِ المتقابِلة، وسُجِنَ كلُّ الناسِ داخلَ أقفاصٍ زجاجيةٍ متشابهة.
2. مساحة الجدران الخارجية. وتحفيزاً للعزلِ الحراريِّ قيل، وللتوفيرِ في استهلاكِ الطاقة وبالتالي لحمايةِ البيئة قيل أيضاً، لا تُحتسَبُ في معدَّلِ الاستثمار السطحيِّ وفي عاملِ الاستثمارِ العام، مساحةُ الجدرانِ الخارجية المزدوجة، بما فيها مساحةُ العازِل في حالِ وجودِه، على أن يراوحَ سُمك الجدرانِ المُزدوجةِ بين 22 سنتمتراً و35 سنتمتراً. فتكونُ الزيادةُ إلى الاستثمارِ السطحيِّ، بحدودِ العشرةِ في المئة من المساحةِ المصمَّمة، وربما تعدَّتْها.
3. الدرج والمصعد. وتحفيزاً للتاجرِ كي يجعلَ الدرجَ أكثرَ عرضاً، وفسحةَ الوصولِ أكبرَ مساحة، نصَّ القانونُ الجديدُ على أن مساحةَ المصعدِ والدرجِ بحدود 20 م2 لا تُحتَسَبُ في معدَّل الاستثمارِ السطحيِّ، مع إضافةِ 6 م2 لكلِّ مصعدٍ إضافيّ، ومعظمُ المباني المرتفعةِ فيها مصعدانِ أو أكثر. إنها 10% إلى 15% تضافُ إلى معدَّل الاستثمار السطحيِّ للمساحة المصمَّمة. لقد أضافَ القانونُ عَبْرَ هذه الطرق الملتوية، ما يقاربُ 40 إلى 45 في المئة من المساحة السطحيَّةِ المصمَّمة، أي إن العقارَ حيثُ المنطقةُ الارتفاقيَّة والمساحةُ تسمحان ببناءِ 8 طبقات، أصبح بالإمكانِ مع الإضافاتِ الجديدة، أن يُبْنَى فيه 11 طبقة وروفاً، فوق طبقة أرضية، دون أن نتخطى الـ 50 متراً في الارتفاع، وهو الارتفاعُ العاديُّ الذي لا يتطلَّب وفقَ القانونِ، أيّةِ تَدابيرَ إضافيةٍ خاصةٍ بالسلامةِ العامة.

الغلاف

لقد لحظَ واضعو هذا القانونِ وهم مهندسونَ تجّار، أن هذهِ المساحةَ المبنيةَ المُضافةَ، وهذا الارتفاعَ المُضافَ بمحاذاةِ الطرقِ ذاتها، لا يمكنُ تَحقِيقُها بخطِّ الغلافِ الذي كان قد لحظَه المرسومُ التشريعيُّ الصادرُ في عام 1983، فأجروا التعديلاتِ اللازمةَ على الخُطوطِ المحدِّدة للغلافِ، في الواجهةِ المُحاذيةِ للشارعِ، وفي الواجهاتِ الخلفية.
كان خطُّ الغلافِ العموديِّ لواجهةِ المبنى المُحاذي للشارعِ ضِعفَي عرضِ الشارعِ والتراجُع الإلزامي من الجانبين، وكلّ تراجعٍ إضافيّ أيضاً. فجعل القانونُ الحاليُّ الخطَّ العمودي هذا ضِعفَين ونصف ضِعف العرضَ الذي ذكرتُه. وللمثالِ أشيرُ، إلى أن خطّ الغلاف العمودي على طريقٍ من 10 أمتار وتراجعٍ إلزاميِّ 4 أمتار من كل جهة، الذي كان 36 متراً وفق القانون القديم، أصبح وفق القانون الجديد 45 متراً، أي بزيادةِ ثلاث طبقات تستوعبُ الإضافاتِ إلى المساحة المصمَّمة التي أشرت إليها سابقاً.
دون إهمال، أن الخطَّ المنحني في الغلافِ عند رأسِ الخطِّ العموديِّ، الذي كانت تُحدَّدُ زاويتُه على أساس (2) عمودياً على (1) أفقياً، أصبحت الآن (2.5) عمودياً على (1) أفقياً. أَصبحت الزاويةُ أكثر اتساعاً، بما يستوعبُ ارتفاعاً إضافياً ينجُمُ عن أيِّ تراجُعٍ إضافيّ.
وعالج القانونُ الجديدُ أيضاً، مسألة خطِّ الغلافِ على الفُسح الخلفيةِ بما يزيد من ارتفاع الخط العمودي، ويُساعدُ على استيعابِ المساحاتِ المضافةِ إلى معدَّل الاستثمار السطحيِّ المصمَّمِ، بطبقات إضافية.
لقد أوصلنا هذا القانونُ إلى:
زيادةِ الكثافة السكانية بنسبة 40%، أو أكثر من ذلك، وزيادةِ عدد السيّاراتِ بالنسبةِ ذاتِها مروراً ومواقف، وزيادة في ارتفاعِ المباني بالنسبةِ ذاتِها أيضاً، وزيادةٍ في النفاياتِ المنزلية. كلُّ ذلك في غيابٍ كليٍّ، للتجهيزاتِ الضروريَّةِ وللمجالاتِ العامة، وللمجالات الخضراءِ.
ينجُمُ عن كلِّ ذلك تدميرٌ لكلِّ تنظيمٍ مدنيٍّ، وتشويهٌ كلِّي للنسيجِ المبنيِّ في كلِّ الأمكنةِ، وتلوُّث إضافيٌّ، وإساءَةٌ جسيمةٌ إلى التشميس والتهوية وإلى الشروطِ البيئية العامة. إنه تغيير كلِّي لصورةِ المدينة، وتحويلُها إلى مكانٍ مشظَّى غير متجانسٍ في بنيانهِ وفي نسيجِهِ الاجتماعي.
■ زيادة عامل الاستثمار العام ومعدَّل الاستثمار السطحي، وإن بطرق ملتوية، تؤدي آلياً إلى ارتفاعٍ في أسعارِ الأراضي. وربّما كان هذا الارتفاعُ أحدَ الأهدافِ الرئيسة لواضعي هذا القانون. فالملكيَّاتُ العقاريَّةُ في بيروت وفي غالبية المدنِ اللبنانية، هي ملكياتٌ صغيرة موروثة في مجمَلِها. وربَّما هدَفَ واضعو القانونِ إلى اكتسابِ المالِكين الصغار اجتماعياً، وسياسياً أيضاً. إذ تجدُ عائلةٌ ورِثَت عقاراً صغيراً، مساحتُه لا تتعدى الـ 400 م2 في شارع عبد العزيز في رأس بيروت على سبيل المثال، تجدُ نفسَها بين ليلةٍ وضحاها، ثريَّة. إذ عَرض أحدُ المضاربين شراءَ العقارِ المذكورِ بمبلغٍ يُناهزُ تسعة ملايين دولار.
يُنتِجُ ارتفاعُ أسعارِ الأراضي هذا مناخاً مثالياً للمُضارباتِ العقاريَّة، إذ يفتِّش فيه المضارِبُون عن ملّاكي العقاراتِ الصغيرة الفارغة، أو تلك التي بُني فيها مبنى تاريخيٌّ أو تراثيٌّ، ويشترون هذه العقاراتِ بأسعارٍ تراوح بين 15000 دولار و25000 دولار للمتر المربع الواحد في المناطق البيروتية التي سبقَ أن ذكرتُها. يتهافتُ المُلَّاك الصغارُ في هذا المناخِ على بيعِ عقاراتِهم. يضمُّها المُضاربُ الشَّاري في عقارٍ واحد، ويهدمُ كلَّ ما فيه، ثم يبيعُه من تاجرٍ محترفٍ، أو يُشاركُ مع آخر لبنائه، مستفيداً من كلِّ الزيادةِ في المساحاتِ المبنية. إنه حراكٌ جهنميٌّ جارفٌ، لا أحد يملكُ القدرةَ على مقاومتِه في ظلِّ قانونِ البناءِ الحاليّ. حراكٌ يدمِّرُ المبانيَ التاريخيَّة والتراثيَّة، ويُلغي الملكياتِ العقارية الصغيرة، ويدفعُ بقوةٍ باتجاه الملكيَّات العقاريَّةِ الكبرى والمضارباتِ، ويجعلُ من قطاع البنيان سلعةً في يد رأسِ المال الكبير. يسهلُ في هذا المناخِ تملُّك عقارٍ كبيرٍ نسبياً، يُبني فيه بناءٌ يتعدَّى ارتفاعُه الـ 50 متراً، وتَفوقُ طبقاتهُ العِشرينَ، ويتعدَّى ارتفاعُه السبعين متراً. هذا ما نراهُ اليوم في مختَلفِ مناطقِ بيروت الإدارية، وفي بيروت الكبرى. الارتفاعُ الأدنى للمباني اليوم هو 50 متراً. ولا حدودَ لارتفاع المباني العمودية الأخرى. وحدها الأبراجُ المنتشِرةُ بعشوائيّةٍ في كلِّ الزواريب، تصنَعُ صورةَ المدينة، المشظَّاة، المفكَّكةِ، أُكرر.

المجموعات الكبرى

تدفعُ المادةُ السادسة عشرة من القانون بقوَّةٍ أيضاً باتجاه الملكياتِ العقارية الكُبرى، وباتجاه المباني المتفلِّتة بارتفاعِها من كلِّ القيود. فهي تسمحُ بالاستثناءِ في معدّلِ الاستثمارِ السطحيِّ، وفي عددِ الطبقات، وفي ارتفاعِ المبنى. كلُّ هذه الاستثناءاتِ مسموح بها بشرطٍ واحدٍ هو شرطُ المساحةِ اللازمة لذلك، وهي 4000 م2 في بيروت، وفي مراكز المحافظات، و20000 م2 خارجها. ولا تشيرُ المادةُ إلى وظيفةِ هذه المجموعاتِ التي قد تتطلَّبُ تعقيداتٍ في التأليفِ، أو تجهيزاتٍ خاصة، كما أنها لا تُشيرُ إلى موقِعِها في النسيج المدنيِّ أو خَارجه، في الريفِ أو في المواقعِ الطبيعية. المجموعاتُ الكبرى مسموح بها في كلِّ الأمكنةِ وفي كلِّ المواقعِ. تُبنى لكلِّ الاستعمالاتِ، ودونَ أي شرطٍ معماريٍّ أو وظيفيٍّ إضافي، باستثناء شَرطَيْنِ يُضافان إلى شرطِ المساحة الضرورية. الأول، هو أن يترُكَ المستثمِرُ رُبع مساحةِ العقارِ للحدائق وللملاعب الرياضية. والثاني، أن يقدِّم المستثمِرُ مخطَّطاً حجمياً يوافِقُ عليه المجلسُ الأعلى للتنظيم المدنيِّ آخذاً بعينِ الاعتبارِ بعضَ المَعايير البيئيةِ والجمالية.

المرأب

زيادةُ عاملِ الاستثمارِ العام، تُصبِحُ في القانونِ أداةً من أدواتِ تعطيلِ التنظيم المدنيِّ. أي إن زيادةَ الكثافةِ السكَّانية دونَ الاهتمامِ بموجباتِها تجهيزاً أو خدماتٍ، تُصبح أداةً رئيسةً لتخريبِ المدينة، إذ تحفِّز المادةُ المذكورةُ الملاكين والرأسماليين الكبار، على المساهمةِ في تأمينِ مواقفَ للسياراتِ المتزايدة، عَبْر منحهم أمتاراً مبنية إضافيَّةً إذا لَحظ أحدُهم في مُنشأَتِه مرأباً عاماً لهُ مدخلٌ خاصٌّ، ويتسع لـ 50 سيارة على الأقل، ويسجِّله باسم البلدية مانحةِ الرخصة.
أصبح بالإمكانِ أن تُبْنَى 11 طبقةً
وروفاً عوضاًَ عن 8 طبقات

عند ذلك يُمنحُ هذا المالكُ زيادةً في عامل الاستثمارِ قدرُها 12 م2 عن كلِّ سيارةٍ في المرأبِ العام، شرطَ ألا تتجاوز هذه الزيادةُ 1500 م2. أي أعطنا مواقف لـ 125 سيارة تقول البلدية للتاجرِ المُضارِبِ، وخذ زيادةً في عامل الاستثمار قدره 1500 م2، تبنى بها أربع طبقات فوق الطبقات العشرين الملحوظة في بنائك. أعطنا 125 موقفاً، وزد الكثافة السكانية، وزد معها زحمةَ السير، وحجمَ النفاياتِ، وزد مبناك ارتفاعاً، واتركهُ يحجُبُ الشمسَ والهواءَ عن جواره. دمِّر النسيجَ المدني. شوِّه صورةَ المدينة. لا همّ. المهمُّ مواقف السيارات الإضافية. كلُّ شيءٍ للسيَّارة ولا شيء للناس. كلُّ شيءٍ لكبارِ الملاكين ولكبارِ الرأسماليين، ولا شيءَ لعامة الناس. عاملُ الاستثمارِ العام والكثافةُ أداةٌ لتخريبِ التنظيم المدني. إنها كارثةٌ موصوفة.

الأبنيةُ التي يتجاوز علُّوها الـ 50 متراً

جاء في المادة العاشرة من المرسوم التطبيقي، أنه عندما يتجاوزُ علوّ البناء 50 متراً، يجب أن يخضَعَ الترخيص بالبناء لموافقةِ المجلسِ الأعلى للتنظيم المدني...، كما يجبُ ألا تقلَّ مساحةُ العقار الذي سيُقَامُ فيه البناءُ البرجيُّ عن أربعِ مراتٍ المساحة الدنيا المفروضة لقِطَعِ الإفراز...
تختصرُ هذه المادة السياسةَ العامَّة في حقلِ البنيان، وفي صُنعِ صورةِ المدينة. إنها تدفعُ بقوة باتجاه الملكيَّةِ العقارية الكبيرة، ورأسِ المالِ الكبير. أكرِّر، وأكرِّر. وهي في الوقتِ ذاتِه تدمِّرُ نسيجَ المدينةِ الذي ألفناه وأحبَبناه. هذا النسيجُ لا يزال صامداً في أحياء كثيرة من المدينة. شرطٌ واحدٌ لكلِّ هذه الأبراجِ التي تملأُ السماءَ، كما تملأ صفحاتِ الجرائدِ والمجلاتِ المختصَّة، شرطٌ واحدٌ لتدميرٍ كليٍّ لصورةِ المدينة، مساحةُ العقارِ أربعُ مراتٍ المساحة الدنيا المفروضة لقطع الإفراز.
10-1- في هذا السياق، العودةُ ضرورية إلى قانونِ البناء وتقسيم مدينة بيروت إلى مناطق ارتفاقية، الصادر في المرسوم الاشتراعي رقم 61/ل بتاريخ 30 آب 1940، والمعدَّل بالقانون الصادر بتاريخ 20 كانون الثاني 1954.
1– في المنطِقَتينِ الارتفاقيتين الأولى والثانية، المساحةُ الدنيا الناتجة من الإفراز هي 250 م2. أي يمكن أن يكونَ المبنى مرتفعاً في عقارٍ لا تتعدَّى مساحته الـ 1000 م2. أي تستطيع أن تبني في هذا العقار برجاً مساحتُه الأفقية 350 م2، 250 م2 منها تحتسَبُ في عامل الاستثمار. والمساحة الإجماليّةُ المسموح بها وفق نظام المنطقة هي 5000 م2. أي يبلغُ عدد الطبقات في البرجِ 20، وارتفاعُ المبنى 66 متراً.
2– لقد أصبح كامل المنطقة الأولى، وجزء من المنطقة الثانية بالقانون خارج قانون البناء. إنها منطقةُ سوليدير، التي لها قانونُها، وأبراجُها، وحقوقُها باحتلالِ الأملاكِ العامَّة، وردمِ البحرِ، وتحديد المساحاتِ المسطَّحة والإجمالية، وتحديدِ ارتفاعاتِ المباني... كلُّ ذلك بالقانونِ، لكن خارج القانون.
3– أما الباقي من المنطقة الثانية، خارجَ منطقةِ سوليدير، مثل منطقة الباشورة، وزقاق البلاط، والوتوات، وميناء الحصن، والمرفأ، وطريق الشام حتى جامع البسطة الفوقا... إلخ، فلم تَعُد مسألةُ بناءِ الأبراجِ في عقارٍ لا تتعدى مساحتُه الـ 1000 م2 مسالةً نظرية. فهذا ما يُبنى الآن في واجهةِ منطقةِ زقاق البلاط المطلَّة على جادة فؤاد شهاب، وفي منطقةِ الوتوات، وفي واجهةِ جسرِ شارل حلو المُطلَّة على المرفأ، وفي منطِقَتي الصيفي والجميزة، وفي كلِّ المناطِق التي تَحوطُ سوليدير. الأبراجُ بمساحاتٍ أفقية صغيرةٍ، وبارتفاعاتٍ شاهقةٍ. إنها أشبهُ بالحِبَالِ التي تتدلَّى من السماء. إنها منزَلقاتٌ هَبطتْ فوقَنا، سيَغْزونَا عَبْرها غرباءٌ آتون من عالمٍ آخر.
4– أما في المنطقة الارتفاقية الثالثة، فالمساحةُ الدنيا للقِطع الناتجة عن الإفراز، فهي 300 م2 والمساحة المطلوبة لبناء برجٍ هي 1200 م2. يُبنى في هذه المساحةِ وَفقَ عاملِ الاستثمارِ، 4800 م2، أي مبنى من 350 م2 مساحة أفقية، فيها 250 م2 تُحتَسَبُ في عاملِ الاستثمار، أي مبنى من 20 طبقةً بارتفاع 66 م. تمتد المنطقةُ الارتفاقية الثالثة من شارع السادات غرباً حتى منطقة مار مخايل شرقاً، وصولاً إلى شارع فؤاد الأول وقصر الصنوبر. الأبراجُ ممكِنةٌ في كلِّ هذه الأماكنِ، في عقاراتٍ لا تتعدَّى مساحتُها 1200 م2. وكلُّ برجٍ تصل قيمتُهُ مع الأرضِ التي بُنيَ فيها إلى عشراتِ الملايين من الدولارات. إنها الحمَّى والطفرةُ السائدتان اليوم. شراءُ العقاراتِ الصغيرة، هدمُ النسيج المدنيِّ القديم، ضمُّ العقاراتِ في عقارٍ واحد، وبناءُ مجموعةٍ من الأبراج، التي لن تصنَعَ مجتمعاً، وهي بالتأكيد، لن تصنَع مدينةً.
5– أما في المنطقة الارتفاقية الرابعة، فالمساحةُ الدنيا للقِطَع بعد الإفرازِ هي 300 م2 أيضاً. ويكفي 1200 م2 لنبني برجاً من 18 طبقةً بارتفاع 60 متراً. تغطِّي المناطقُ الارتفاقيَّة الثانيةُ، والثالثةُ، والرابعةُ، معظم مجالاتِ مدينة بيروت. وتنتشرُ الأبراجُ بسرعةٍ عجيبةٍ في كلِّ هذه المجالات. مبانٍ بارتفاعاتٍ راقصةٍ في كلِّ الأمكنة. تدمِّر الأبنيةُ الشاهقةُ عِمارةَ بيروت الإنسانية، الأفقية، الأليفة، بقياسَاتها ومسطَّحاتها وواجهاتها. وتُقيم مكانها حبالاً تتدلَّى من السماء، تنتظرُ هبوطَ الغزاةِ آتينَ من الفضاءِ الخارجيِّ. تبتلعُ بيروتُ ماضيها، تدمِّر تاريخَها، تردمُ بتراثِها مياه البحرِ لتزيد مساحةَ «الأراضي المكتسبة»، تتفكَّك وتتشظَّى في البنيانِ وفي الاجتماع.
تطردُ أبناءَها، وتتساءلُ؟ هل سيسكُنُ هذهِ الأبراجَ غُرباءٌ ننتظرهم؟ أم أنها ستبقى فارغة!؟

الخاتمة

ينتَشِرُ البنيانُ العموديُّ البرجيُّ، بنيانُ رأسِ المالِ الكبيرِ والمُضَارباتِ العقاريَّة، بامتدادِ المدينةِ، من نهرِ الكلب إلى نهرِ الدامور. يتسلَّقُ التلالَ القريبة. يصعَدُ إلى القِمَم. يَحدُّ رأسُ المال الكبير، وتَحدُّ المضارباتُ العقارية يَحتَضِنُهما القانون، من قدرةِ التنظيمِ المدنيِّ. وتَبدو المُمارسَةُ المعماريَّةُ اليوم، محكومةً بتأمينِ غلافٍ للمباني، فيهِ من المشهديَّةِ والإبهارِ، ما يُقنِّع هذهِ الوقائعَ الخَشِنَة. لقد كانَ ممكناً لثلاثين سنة خَلَتْ، المحافظةُ على قدرٍ من السيطرةِ الإيجابيَّةِ، على شكلِ النسيجِ المدنيِّ في بيروت، وعلى معْناه. أما اليوم فقد، دُفِنَ قلبُ بيروت التاريخي في مياهِ البحرِ، وطَغَتْ بالتدرُّجِ على الباقي من نسيجِ القرنِ التاسع عشر والنِصْفِ الأول من القرن العشرين، الأداتان المُتعايشتان في التمدُّد الميغالوبوليِّ للمدينة، وهما الانتشار المُنفَلِتُ للمباني البرجية، والأوتوسترادات المتلوِّيةُ في أحشاءِ النسيجِ العتيق، آخرُها ما ننتظرهُ في منطقة الحكمة _ الجعيتاوي _ مار مخايل.
فالأداة الأولى أدّت وحدها إلى ارتفاع في أسعارِ الأراضي، أما الأداةُ الثانيةُ، فقد دفَعتْ هذا الارتفاعَ إلى مناسيبَ مُذهلة.
دُمِّر قلبُ بيروتَ التاريخيّ، وأَعلَنتْ «الحضارة الكونيَّةُ» انتصارَها، مُعلِنةًّ في الوقتِ ذاتِه هزيمَةَ ثقافتِنا... هزيمتنا! فهل نسْتَسْلِم!؟؟