في تموز (يوليو) عام 2012، قدّم عازف البيانو اللبناني باسل البابا (1982) أمسية في «الجامعة الأميركية في بيروت». ذاك اليوم يمكن اعتباره محطة أساسية في مسيرة الطبيب الشاب. في خبرٍ أوردناه في صفحاتنا عن تلك الأمسية، أشرنا إلى التحدي الذي ينتظر باسل البابا بعد الانتهاء من التحصيل الأكاديمي في مجالَين صعبَين أساساً، بل هما من الأصعب في عالمَيهما: العلوم والفنون.
وذهبنا أبعد من ذلك، مقترحين عليه الاختيار بين امتهان الموسيقى وترك الطب أو امتهان الطب وجعل الموسيقى هواية. لكن ما اعتقدناه مستحيلاً من منظارنا، بدا صعباً، لكن ممكناً، من منظاره. هكذا عاد إلى الوطن لممارسة رسالتيْه الإنسانية والفنية بعدما أنهى تخصّصه في المجالَين في ألمانيا، وها هو يفتتح عيادته المتخصِّصة (أنف/ أذن/ حنجرة) ويعلن في الوقت عينه عن أمسيتَين ضمن برنامج يليق بعازفي البيانو القديرين والجدّيين.
في أمسية «الأميركية»، أدى البابا عملاً ضخماً من ريبرتوار البيانو الكلاسيكي، هو سوناتة المجري فرانز لِيسْت (1811 ـــ 1886) الذي لم يكتب غير واحدة في هذه الفئة. لكنها كانت كافية، بما أنه حمّلها كل الصعوبات والتعقيدات والجمال. رفع باسل التحدي وقدّمها بشكل لائق. لم يتخطَّ من «يستحيل» تخطّيه (فلاديمير هوروفيتز... ولا أحد غيره) ولا حتى مَن اقتربوا من الأسطورة الروسي المذكور. لكنه لم يسقط، وهذا وحده إنجاز.
بعد تلك الأمسية، شارك في أخرى عابرة (نيسان/أبريل 2013) لن نتوقّف عندها لأنّها لم تكن متكافئة، علماً أنها أتت لصالحه بين المشاركين الثلاثة (مارك ــ أرنست دياب وأرمينيه شوكاسيزيان).
قدّم العديد من الأمسيات وأدرج في برامجه مقطوعات كثيرة التعقيد

مضت سنة تماماً. هذه المرة يعود باسل البابا إلى المسرح وحيداً، ليقدِّم أمسيتَين غداً في «المدرسة اللبنانية الألمانية» (جونيه)، ومساء الجمعة المقبل في «الجامعة الأميركية». وعلى البرنامج ثلاثة مؤلفّين. اثنان قال لـ «الأخبار» إنّه يفضلهما على كل مبدعي الموسيقى الكلاسيكية في التاريخ: بيتهوفن ولِيسْت. أمّا الثالث فهو سيزار فرانك.
من عند بيتهوفن، اختار السوناتة الثالثة للبيانو. هي من الأطول (والأجمل) بين السوناتات الـ32 التي تركها المؤلف الألماني، علماً أنّها تعود إلى الفترة الأولى من مسيرته (كتبها بين عامي 1794 و1795). كما أنها أقل شهرةً من العديد زميلاتها. لذا خيارها أمرٌ جيِّد تفادياً لاجترار تلك التي سمعها محبو الكلاسيك عشرات المرات. بهذا العمل، تبدأ الأمسية، يليها لِيسْت، قاهر البيانو ومحطِّم أوتاره الذي اختار البابا من ريبرتواره أربع مقطوعات تتصاعد في الصعوبة. فقد كتب المؤلف المجري 12 تمريناً للبيانو بعنوان «12 تمريناً ذات صعوبة تصاعدية». سيؤدي العازف الشاب التمارين الأربعة الأولى منها، أي أنه سينتهي بأشهرها (الرقم 4) وهي بعنوان Mazeppa. في القسم الثاني، يؤدي البابا عملاً للمؤلف الفرنسي سيزار فرانك هو Prelude, Fugue & Variation (سمعناه في أداء حيّ مع تاتيانا بريماك- خوري منذ أكثر من سنتين) ليختم بعودةٍ إلى لِيسْت، لكن هذه المرة مع عملٍ يحتاج شرح اسمه صفحات، فكيف بشرحه هو؟! إنه المقطع الأهم في سلسلة أعمال للمؤلف المجري بعنوان «سنوات الحج» (ثلاث سنوات)، وهو أساس السنة الثانية (عنوانها «إيطاليا») واسمه «بعد قراءة دانتي» (Après une Lecture de Dante). هذا العمل يُعد «السوناتة الثانية» لليسْت، يحمل أصلاً إشارة إلى ذلك، إذ أرفق مؤلفه الاسم بملاحظة على مستوى الشكل: فانتازيا/ شبه سوناتة.
يدرس باسل البابا البيانو منذ طفولته. وصل في امتلاك تقنيات آلته إلى الذروة. قدّم العديد من الأمسيات وأدرج في برامجه مقطوعات مرعبة لناحية التعقيد. لدى سؤالنا عن المؤلف الذي يعتبره الأصعب أداءً، أجاب بما يدلّ على فهمٍ عميق للموسيقى: موزار. هو الفهم الذي لا يتخطى عبقرية الأطفال الذين يفهمون المؤلف النمساوي أكثر منّا!



باسل البابا: 20:00 مساء الغد في «المدرسة اللبنانية الألمانية» (جونيه ـــ 835527/09) والجمعة المقبل في «الجامعة الأميركية في بيروت» ( 35000/01)