اليوم ينزل يوسف الملّاح، ومعه زملاء له في الدفاع المدني، إلى البحر. سينطلقون من شاطئ الرملة البيضاء في بيروت. سيسبحون باتجاه الشمس، ببدلاتهم الكحلية الرسمية، إلى أن «يأكل السمك لحمهم». سيحصل هذا، اليوم، إن لم يُقرّ مجلس النواب اقتراح القانون الرامي إلى تثبيتهم كموظفين في الدفاع المدني. الملّاح ورفاقه ألزموا أنفسهم بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم علناً، الأسبوع الماضي في وسط العاصمة، وبالتالي «لا مكان للتراجع».
قد يظن بعض المسؤولين في الدولة، من رؤساء ووزراء ونواب وسواهم، وربما من سائر المواطنين، أن الحديث عن النزول إلى البحر هو «مزاح» أو «تهويل» أو مجرد كلام في الهواء. في الواقع، لنأمل ألا يحصل ذلك، ولنأمل أيضاً أن يكون الأمر مجرّد كلام. لكن، في الحقيقة، من جلس بين أولئك المعتصمين عند الشاطئ، يوم أمس، يدرك سريعاً أن بينهم من سيفعلها حقاً. صحيح أن مجلس النواب، بحسب رئيسه، يعتمد قاعدة عدم التشريع تحت ضغط الشارع، لكن هذه المرّة المسألة مختلفة. المعتصمون عند الشاطئ جدّيون، ولمن لا يصدق فليجرّبهم، ولكن فليكن على استعداد لهذا الحمل الثقيل لاحقاً. لنأمل أن تكون «الغطسة» للمرح فقط، في نهار مشمس، بعد نيل المتطوعين حقوقهم.
لم ينزل أي من «نواب الأمة» إلى الاعتصام المفتوح، عند الشاطئ الرملي، خلال الأيام الثلاثة الماضية. كثيرون من المواطنين نزلوا، تحدثوا مع الملاح ورفاقه، وبعضهم قالوا إنهم في حال رفض اقتراح القانون في مجلس النواب، فإنهم سيمنعون المعتصمين من النزول إلى البحر مهما كلف الأمر. إحدى السيدات قالت لهم: «إن كنتم رخاص عند الدولة فأنتم عندنا غاليين كتير». لقد نجح هؤلاء المتطوعون في ملامسة مشاعر الناس، وهم، حتى بحسب نص قانونهم: «من الناس وإلى الناس». لقد نجح الملّاح بدمعته الشهيرة في وسط بيروت أن يجعل مواطنين، ليس بيدهم سوى التضامن، يبادرون للنزول إلى مكان الاعتصام «خوفاً على حياة الشباب». يبدو أن تلك الدمعة فعلت فعلها في بعض الناس، الذين وجدوها دمعتهم هم، في حين غاب المسؤولون تماماً عند المشهد، إذ لم يحضر إلى الاعتصام من يذرف أقله «دمعة تمساح».
خلال الأيام الماضية، سأل بعض الناس عن تفاصيل قضية متطوعي الدفاع المدني، عمّا لها وعمّا عليها، وسأل بعضهم عن معنى اعتراضهم ما داموا «تطوّعوا بإرادتهم». هنا لا بد من لفت نظر هؤلاء، وكل من يعنيه الأمر، إلى أن كل متطوّع مضى على عمله سنوات في الدفاع المدني، إنما كان موعوداً بالتثبيت، ولهذا كان الاستمرار في العمل التطوعي، الذي تحتاج إليه الدولة حاجة أساسية ولا يمكنها الاستغناء عنه. لكن كما هي عادة الدولة في لبنان، كذبت عليهم، مراراً وتكراراً، وسنة تلو أخرى، إلى أن وصل الأمر بـ«أصحاب الوجع» إلى الانفجار. ولمن لا يعلم، في الدفاع المدني، هذه المديرية العامة التي تتبع وزارة الداخلية، يوجد أكثر من عنوان للعمل لديها: موظف مثبّت، أجير، متعاقد ومتطوع. مجموع الموظفين الثابتين لا يصل إلى أربعين موظفاً، أما الأجراء والمتعاقدون فهم 600 تقريباً، أما الباقون، وهم من المتطوعين، فيبلغ عددهم نحو 2000.
سيسبحون ببدلاتهم الكحلية الرسمية إلى أن «يأكل السمك لحمهم»
وبحسب المسؤولين في الدفاع المدني، فإنه في حال قرر المتطوّعون أن يتوقفوا عن العمل فجأة، فإن «الشلل التام» سيصيب الدفاع المدني في لبنان برمته. في الواقع «هم الدفاع المدني برمته». إلى هذا الحد «الدولة» تافهة، فعلاً، إذ لولا المتطوعون لما كان لديها «دفاعها المدني». إلى هذا الحد الأمور هزيلة في هذه البلاد، بل أكثر من ذلك، الدولة تكذب على هؤلاء، وتماطل بهم لسنوات، وتستغل ضعفهم وحاجتهم وبساطتهم، ولكن ها قد آن الأوان لينتهي مسلسل الذل «والمسخرة» هذا.
متطوّعو الدفاع المدني يصلون قبل الجميع إلى ساحات الكوارث والانفجارات، قبل المسؤولين الذين يحضرون لاحقاً للإدلاء بالتصريحات العرمرمية ــ التجارية. لطالما لم يجدوا بين أيديهم أدوات لإطفاء الحرائق، في الغابات والأحراج، فكانوا يفعلونها بأيديهم، وآثار الحريق ما زالت بادية على أيدي كثير منهم. ربما من المفيد أن تُعرض في مجلس النواب، اليوم، صورة لشادي منذر، المتطوّع الذي أكلت النار كفّيه، فأصيب بتشوّه دائم. لم يكن منذر، وهو اليوم بين المعتصمين في الرملة البيضاء، مسجلاً في الضمان الاجتماعي. يقول، ورفاقه يشهدون على كلامه، إن بعض تكاليف علاجه دفعها من ماله الخاص، وعندما احتاج العلاج إلى مبالغ كبيرة راح المتطوعون من رفاقه يجمعون المال من جيوبهم، من أجل إكمال علاجه. هذه حقيقة يمكن من يريد التأكد منها العودة إلى منذر والمتعصمين، إذ لديهم كل الأوراق والفواتير التي تثبت ذلك. خالد طالب، منسّق منطقة الشمال في الدفاع المدني، هو أحد المتطوعين! صدق أو لا تصدق، منسّق محافظة ومع ذلك متطوع. غادر شاطئ الرملة البيضاء، أمس، قاصداً مستشفى الرسول الأعظم على طريق المطار. تبرّع هناك بالدم لسيدة عجوز من الضاحية. يقول: «قبل أيام لم يكن أحد يحترمنا، اليوم رأيت الجميع يبتسم في وجهي، الحمدلله وصل صوتنا إلى الناس الطيبين». طالب اشترى بدلته من ماله الخاص، بعدما تآكل قماشها القديم، إذ لم يكن لدى إدارته أقمشة جديدة! حتى «الرينجر» اشتراه بماله. لديه في مركزه 4 موظفين و10 متطوعين... «إن غاب الـ10 فصدّقني سيقفل المركز ولا يعود بإمكاننا تقديم أي عون أو إسعاف للناس».
عصر أمس ظهرت بوادر إيجابية في قضية هؤلاء المعتصمين، إذ نُقل عن وزير الداخلية نهاد المشنوق أنه «لن يعارض غداً (اليوم) إقرار القانون، بعد وضع تعديلات طفيفة عليه». يخشى المتطوعون أن تخدعهم الدولة، مجدداً، عبر ما يسمى «المباراة» الإلزامية قبل التوظيف. يخافون أن تكون هذه طريقة قانونية للتخلص منهم. في مطلق الأحوال، حتى لو أقرّ القانون، فإنه لن يكون لأحد منّة أو جميل على متطوعي الدفاع المدني. لقد صرخوا، وهزّوا العصا، ووصل صوتهم. اليوم موعدهم مع البحر وشمسه.


يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad