في كل مرة تظهر فيها مؤشرات على تراجعات في حركة الاحتجاجات القائمة داخل سوريا، تتعاظم الإشارات والخطوات الآتية من الخارج القريب والبعيد. صحيح أن النظام لا يقوم بمبادرات خلّاقة لاحتواء الأزمة. لكن آليات عمله وفق برنامجه هو قائمة، فيما تواجه المعارضة تشتتاً تحتاج معه الى لاصق. الغربيون وبعض أزلامهم يسعون الى ذلك، وبعض العرب أيضاً. لكن المعارضين يعرفون أن الأمر مرتبط بهم هم، بقدرتهم على صياغة موقف حقيقي، يحاكي الأمر بواقعية شديدة، تأخذ بعين الاعتبار ما حصل وما قد يحصل، وتجيد نقداً ذاتياً ولو مبكراً. ويكون لها موقفها الواضح، غير الحمّال للأوجه من كل صنوف المداخلات الخارجية في الأزمة السورية. وهو أمر ليس متوقعاً بالنظر الى تقاسيم وجه المعارضين، الذين لا يجيدون على ما يبدو إدارة الدفة وكأنهم فوجئوا بما يحصل. جلّهم يقول: الشعب سبقنا، والشباب هم الذين يقودون المعركة الآن، ونحن نوفر بما نقول دعماً للناس، والمبادرة لأهل الأرض... وما الى ذلك من عبارات تستخدم عادة لتغطية النقص الفعلي بما يقدر هؤلاء على القيام به في هذه الأزمة. لكنهم بعد أن ينهوا صياغة عبارات المجاملة هذه، ينطلقون في توصيف ما يجري وفي اقتراح الحلول التي تقوم جميعها على فكرة واحدة: إسقاط النظام. في المداولات غير الرسمية، أو تلك التي لا تسجلها كاميرا تلفزيون أو هاتف محمول، أو ينقلها صحافي، يقول بعض هؤلاء إن شعار إسقاط النظام إنما له وظيفة تعبوية، لكنه ليس هدفاً حقيقياً. وإن المطلوب تسوية مع النظام تفتح من خلالها الأبواب لتغيير تدريجي يقود سوريا الى مرحلة جديدة. ومع أنهم لا يقولون هذا الكلام علناً خشية من الشارع، أو ظناً منهم أن النظام سوف يفهم الأمر على أنه ضعف، إلا أنهم يعودون الى التركيز على ما يجري على الأرض، والإشارة الى القمع الدموي للمحتجين. هم يستمرون في إغفال دور المجموعات المسلحة، ويصرون على أنها ردود فعل ذات طابع أهلي محدود، ولا تمثّل رأياً حقيقياً قوياً لدى الشارع، ويخلصون الى القول بأن الحوار ليس له أفق.
وبانتظار أن يخرج من بين المعارضين رجل له مواصفات رجل اللحظة، ليقول كلاماً واضحاً داعياً الى تسوية تاريخية، رافضاً الذهاب في الاحتجاجات الى حدود تقود الى احتراب أهلي، قابلاً بحوار مع السلطة، ومندداً بدور أميركا وأوروبا وعرب النفط، فإنه يصعب توقع تحول جدي في المشهد السياسي السوري. ذلك أن المبادرة لم تعد تقتصر الآن على من بيده إخراج الناس في تظاهرات. لقد جرب هذا الأمر، وأثبت الشعب السوري أنه مستعد للتضحية من أجل تحقيق مطالب مشروعة في حياة حرة وكريمة. لكن المبادرة الآن، في من يقدر على ضبط الشارع، أو على الإمساك به. وهذا اختبار ليس لمراعاة السلطة أو آخرين، بل لإدراك أن معارضة قادرة على الإمساك بالشارع، وحدها قادرة على فرض حوار منتج مع السلطة، بمعزل عن كل أنواع القمع الذي تمارسه السلطة أو التجاهل لكثير من الشعارات المرفوعة.
لكن يبدو أن هناك حقيقة قاسية على الجميع، وهي أن غالبية من ينطقون اليوم باسم الشارع لا يملكون دالّة حقيقية عليه، وتأثيرهم محدود جداً، ويقتصر عند البعض على إطلاق المواقف والبيانات أو الظهور على شاشات والإدلاء بمواقف وآراء. أما من يملك القدرة في هذه المنطقة أو تلك، فهو لا يملك القدرة على ادعاء أن هناك آليات تنسيق كافية بغية التوصل الى موقف واضح، أو الى آلية واضحة في كيفية متابعة ما يجري. وهنا المشكلة الكبرى.
في مراكز القرار في دمشق، يتعاملون مع المرحلة على أنها في طريقها الى حل معضلة الاحتجاجات الضخمة داخلياً، وأنها في طريق الى تصعيد واسع مع الخارج القريب والبعيد على حد سواء. وفي مراكز القرار في دمشق، يعتبرون أن ما تشهده بعض المدن والبلدات السورية لم يعد يمثل خطراً حقيقياً يستدعي استنفاراً كاملاً من جانب أجهزة السلطة الأمنية والعسكرية، بل هم يعتقدون أن المطلوب الآن استنفار الدولة لمواجهة مشروع حصار وضغوط خارجية هي الأعنف منذ زمن بعيد. وبموازاة ذلك، يبدو في النظام من يعتقد أن الحوارات التي ستنطلق اليوم في محافظات سورية عدة، ستتيح تنفيس بعض الأجواء، وأن حواراً مركزياً سيديره الرئيس بشار الأسد قريباً، سيكون مناسبة لاختبار نوايا الآخرين.
بالطبع، بين المعارضين من يقدر على الجواب سريعاً بالقول: إن الحوار ليس سوى حوار بين السلطة ونفسها، وإنه لا مجال لحوار من دون تنازلات مسبقة واضحة وقوية وتمثل رسالة استجابة من السلطة لجزء من مطالب الشعب. وبالتالي، سوف نكون مرة جديدة أمام الجدار نفسه، وسوف نكون أمام المشاهد ذاتها، من تبادل المسؤولية عما يجري، وتوتر سياسي يغطي توتراً طائفياً ومذهبياً على الأرض.
وفي هذا السياق، قد يكون مفيداً لفت انتباه معارضين بارزين، مثل برهان غليون، الى أن مشكلة المجلس الوطني ليست في اسمه أو شكله أو من يكون عضواً فيه، بل في ما يقدر على طرحه من مبادرة قابلة للحياة، تأخذ بعين الاعتبار أن مواطنين سوريين لا يزالون يقفون مع النظام، وهم بحسب الظاهر ليسوا أقلية!