يكاد يكون ترشح رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، في 4 نيسان، هو الحدث الوحيد في الاستحقاق الرئاسي مذ بدأت المهلة الدستورية. ما خلا موقف الرئيس ميشال عون الذي يضع نفسه خارج اي تنافس مع اي مرشح آخر، احتجب المرشحون الآخرون، الطبيعيون والتقليديون في اكثر من استحقاق في السنوات المنصرمة، من دون ان يوحي اي منهم انه غادر الحلبة. بذلك يبدو جعجع المرشح المعلن الجدي الوحيد لانتخابات لا تزال بلا دعوة الى جلسة انتخاب، وبلا موعد لهذه الجلسة، وبلا مواقف مسبقة لكتلتي 8 و14 آذار من مرشحها على الملأ. لا احد يستعجل تحديد خياراته مع انقضاء الربع الاول من المهلة الدستورية. ولم يشأ رئيس المجلس نبيه بري، حتى الآن، الجزم بيوم انعقاد جلسة الانتخاب بناء على صلاحيته في توجيه الدعوة، قبل انقضاء الربع الثاني الذي هو النصف الاول من المهلة. لا احد يتحدث ايضا عن اكتفاء الانتخاب بموعد واحد للجلسة، ولا عن سهولة اكتمال نصاب الثلثين لانعقاد البرلمان، ولا خصوصاً عن ان الانتخاب حتمي.
بل يبدو استحقاق 2014 معلقا على حبال ثلاثة متوازية: بدء المهلة الدستورية، جعجع الذي يبحث عن مرشح منافس، عون الذي يريد انتخابه بالتوافق. بيد ان بضع ملاحظات تحوط بالزعيمين الحاضرين في الصراع الماروني ــــ الماروني منذ عام 1986، اقتداءً بأسلافهما، عابرين بمراحل تفاوتت فيها الضراوة مع المهادنة. الا انها لم تشهد مرة مصالحة.
عندما وُضِعا خارج الملعب، كانا واسعي النفوذ ايضاً انطلاقاً من المغزى الرمزي لاقصائهما. احدهما في منفى، والآخر في سجن. عادا اليه معا بفارق شهرين بين ايار وتموز 2005. وهما مذ ذاك ــــ كما اليوم كما منذ عام 1986 ــــ يُشعر احدهما الآخر بأن الرقعة التي يقف عليها لا تتسع لهما معاً.
بعيدا من اي مقارنة ظالمة لدوافع شتى، لم تتسع الرقعة نفسها من قبل لاميل اده وبشارة الخوري في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعيناته، ولكميل شمعون وحميد فرنجيه في الخمسينيات، ولكميل شمعون وفؤاد شهاب في الستينيات. كان على اكتاف هؤلاء زعماء موارنة آخرون يبدأون من زغرتا مع سليمان فرنجيه ولا ينتهون في جزين مع جان عزيز، مروراً بموارنة بيروت وجبيل وكسروان والمتن. الا ان سرّ رقصة الانقسام الماروني والتناحر على السلطة يختار اثنين منهم لادائها.
اولى الملاحظات تلك، ان توقيت ترشيح جعجع في الايام العشرة الاولى من المهلة الدستورية، قطع في الظاهر الطريق على ترشيح رفيقه في دائرة الاربعة الكبار الرئيس امين الجميل، وكذلك على رفيقيه في قوى 14 آذار النائبين بطرس حرب وروبير غانم. رمى ترشيحه الى توقع أسوأ السيناريوات، وهو ان يخرج وعون معاً من السباق الرئاسي في حال تعذّر الاتفاق على احدهما.
في المقابل، لم يقطع ترشح عون الطريق على النائب سليمان فرنجيه الذي اعلن، اكثر من مرة، اتفاقه مع الجنرال على تقدّمه عليه في الاستحقاق الى ان يستنفد هذا الترشح مقدرته على الاستمرار، يتقدم اليه عندئذ زعيم المردة. انطوى موقف فرنجيه بدوره على اشارتين: لا بحث في المرحلة التالية الا اذا اقتنع عون تماماً بضرورة الانتقال اليها، على ان يكون هو قائدها وصاحب الكلمة الفعلية في مسارها. يعزز هذا الموقف رفض حزب الله استقبال مرشحين والخوض معهم في ترشحهم، واخطاره اياهم بان رئيس «تكتل التغيير والاصلاح» هو مرشحه الوحيد وسيقترع له، وسيبقى كذلك ما دام مرشحا. يتوخى الحزب بذلك تأكيد ثقته به وتحالفه معه، وفي الوقت نفسه تبديد اي شكوك تساور عون من مغزى استقبال مرشحين آخرين.
ثانيتها، خلافاً لعون، يصطدم ترشح جعجع بامتناع حلفائه في تيار المستقبل، كما حزب الكتائب والمسيحيين المستقلين في قوى 14 آذار، عن تأييده فوراً، وسعي نواب تيار المستقبل الى اطراء ترشيحه بعد اقرانه بذريعة ان لا قرار بتأييده بعد، وانه ليس المرشح الوحيد في قوى 14 آذار.
في استحقاق 2007 كاد غانم يصبح رئيساً بعدما سوّق الرئيس سعد الحريري اسمه لدى واشنطن، ونُظِرَ الى حرب على انه مرشح مخضرم منذ عام 1995 وكان مع الراحل نسيب لحود في احدى المحطات الاسمين الوحيدين اللذين اشاعهما حلفاؤهما وخصوصاً تيار المستقبل عام 2007 قبل التخلي عنهما فجأة. يتصف موقف تيار المستقبل حالياً بغموض والتباس وتردّد، من دون انقطاع خيط الحوار مع جعجع. لا ينكر ان رئيس حزب القوات اللبنانية احرجه بتوقيت ترشيحه، واصراره عليه، وعدّه اياه غير قابل للمناورة، فيما لا يرغب التيار في تجاوز الحلفاء والمرشحين الآخرين في قوى 14 آذار، ما داموا لم يتخذوا بعد موقفاً موحداً بمرشح وحيد. بل يعني اهدار مزيد من الوقت من دون مسارعة الحريري الى دعم جعجع، تعريض الثقة بين الحليفين لمزيد من الشروخ.
مذ اعلنه، حمّل جعجع ترشيحه بعداً ضخماً ليس في وسع حلفائه تلقف وزره: ان يكون رئيساً في اول ترشيح له. لكن اخفاقه في الفوز يعني ايضا انه لن يعود الى حجم ما كان عليه قبل 4 نيسان.
ثالثها، ان ثمة فرقا جوهرياً بين مقاربتي جعجع والحريري لاستحقاق 2014. الاول يرى، شأن البطريرك الماروني والزعماء الموارنة الثلاثة الآخرين، الخيار اولاً مسيحياً يقتضي ان يحظى بدعم فوري من الحريري ما دام المرشح حليفاً متيناً له، يحمل المشروع السياسي للفريق، على غرار دعم جعجع خيارات الحريري في مَن يتبوأ رئاسة الحكومة. في المقابل يقارب رئيس تيار المستقبل الاستحقاق آخذاً في الحسبان الخصم قبل الحليف. لا انتخاب رئيس للجمهورية بلا توافق سنّي ــــ شيعي، مع بري وحزب الله، على نحو امرار انتخاب سليمان قبل ست سنوات بعد فراغ استمر ستة اشهر، وامرار حكومة الرئيس تمام سلام بعد عشرة اشهر من التكليف. من دون اي من العدوّين الشريكين في الائتلاف الحكومي لا نصاب الثلثين لانعقاد جلسة الانتخاب. الا ان الوقت يبدو مبكرا على هذين الفريقين للخوض في الاستحقاق، والبحث عن مرشحهما له. وسيكون اذ ذاك من المستحيل اتفاقهما على جعجع مرشحاً في ظل رفض حزب الله له.
الاصح في ذلك كله ان انتخاب الرئيس لم يعد يخضع لمعادلة توافق مسيحي ــــ اسلامي، على جاري تقاليد الاستحقاقات المتعاقبة حتى مطلع الحرب. بل اضحى ثمرة توافق سنّي ـــ شيعي ــــ مسيحي. ذات يوم من عام 2008، في ظلّ الفراغ الذي اعقب انطواء ولاية الرئيس اميل لحود، قال الوزير السابق ميشال اده للسفيرة الاميركية ميشال سيسون: «اليوم سنّي + شيعي لا يساويان مسلماً، بل سنّي وشيعي. لم نكن كذلك قبل سنوات عندما كان السنّي والشيعي يعنيان المسلم».
رابعها، ينظر عون الى الاستحقاق على انه مرشح توافقي ومرشح اجماع، وهو لن يترشح لمنافسة آخر سواء كان جعجع او سواه. وتبعاً لما يقوله امام زواره، فان اي رئيس لا يتصف انتخابه بالاجماع والتوافق عليه، سيمضي ولايته يدير الازمة لا كي يحكم. وهو لا يطلب هذا الدور ولا يريده. لا مرشحين على اكتافه من قوى 8 آذار ولا منافسين له، بل يجد نفسه اقرب الى اجماعهم عليه. ناهيك بأنه يحظى بغطاء غير مشروط من حزب الله في اتصالاته مع تيار المستقبل والتفاوض معه على الاستحقاق، انطلاقاً من ان اي تفاهم بينهما لن يؤذي الحزب او يكون موجهاً ضده. لكن دون ترشيح عون خلافه الشخصي الحاد مع رئيس المجلس. وفي اعتقاد المطلعين على علاقة عون بحزب الله، فان الاخير في صدد ترتيب لقاء يجمع بري وعون والامين العام للحزب السيد حسن نصرالله بغية التفاهم على موقف مشترك من الاستحقاق.