صحيح أن الهوّة نوعية وكبيرة بين رئيس ونقيب، وبين دولة ونقابة. وأن الفوارق بين الحدثين أكبر من أن تسمح بأي مماثلة بينهما، تحت طائلة السذاجة بل أكثر. والأكيد ــــ كما يقول الفرنسيون ــــ أنه لا يمكن مقارنة ما لا يقارن. لكن ما جرى في نقابة مهندسي بيروت، قبل أيام، يصلح نموذجاً لمقاربة الاستحقاق الرئاسي المرتقب بعد أسابيع، ولفهم بعض جوانبه لا غير.
في الهندسة، كانت المعركة متكافئة، على المنخار. وكان الربح ممكناً لأي من الطرفين. تماماً كما الخسارة. وكان ربما كل «نظام» اللعبة على المحكّ، من مداورة وعدم توازن بين قاعدة وسلطة وتباين توزّع بين فروع منها القوي ومنها الضعيف... فجأة بادر الفريق الحريري إلى طرح التوافق. ونجح الفريق العوني في تلقّي المبادرة وتثميرها وجعلها توافقاً. أظهر الفريق الحريري، من جهته، أنه بات ناضجاً لمفهوم الشراكة في السلطة... النقابية، في هذه الحال. ونجح الفريق العوني، من جهته، في أن يشكل الجسر المتين بينه وبين الفريق الشيعي. جسر لا قدرة لسواه على لعبه اليوم، نظراً إلى ما بين ضفتيه من لجّة عنف ودم ونيات إلغاء. هي ليست عن عندياتنا اللبنانية، بل تحاول التسلل إلينا إما من قرون بائدة، وإما من جوار ومنطقة متخمين بتلك الألغام البشرية. ونجح الفريق العوني خصوصاً في أن يكون الوسيط النزيه والشريك الضامن، لا المضارب. أمّن ثوابت النقابة، وأعطى كل فريق حقه، من دون عمولة سلطوية ولا بازار انتخابي ولا عمالة لأي من الطرفين ولا لسواهما.
تكراراً، لا يمكن قطعاً نقل المشهد الهندسي ومطابقته على الرئاسي. غير أن ما ظهر يوم الأحد الماضي في بيروت، يترك ما يمكن الإفادة منه وما يجب التنبّه إليه. وفي هذا السياق، من الضروري التوقف عند الملاحظات التالية:
أولاً، في تجربة النقابة جاءت المبادرة من الفريق الحريري. في استحقاق الرئاسة تصلح المبادرة من أي طرف كان. لا لزوم لانتظار الآخر هنا. يكفي لنا أننا سننتظر الخارج. فلا الخطوة الأولى ترفع من حصة صاحبها، ولا الانتظار يزيده ثمناً. يمكن لعون أن يبادر الآن في اتجاه الحريري. أو لسعد في اتجاه الضاحية عبر الرابية. مسألة واحدة أكيدة في هذا المجال، هي أن هدف المبادرة، إذا ما أريد لها النجاح «الهندسي» نفسه، هو وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، بإجماع من فريقي الصراع، الحريري كما الثنائي الشيعي، بتأييد كنسي ومباركة إقليمية ودولية. لا حباً بشخصه ولا تكريساً ولا توريثاً. بل لكونه الوحيد القادر اليوم على نسج تلك الثلاثية الذهبية المقابلة والمتوازية: أولاً الحفاظ على النظام، العزيز جداً على الفريق الحريري، ومنعه من السقوط أو التحلّل أو الاندثار. ثانياً منع الفتنة، المقتل الآن وفي كل آن بالنسبة إلى فريق الثنائية الشيعية والمقاومة. وبالتالي حفظ المقاومة كعنصر قوة من عناصر منعة الدولة والوطن، على الحدود، لا داخلها ولا خارجها. كما صونها من الداخل ومن الخارج معاً. وثالثاً ضمان الحضور المسيحي الفاعل، كشرط وشريك لتحقيق الأمرين السابقين.
ثانياً، في تجربة النقابة، حصل ما قد يكون خطيراً قاتلاً في تجربة الرئاسة. ألا وهو بقاء وليد جنبلاط خارج التوافق. بلا مماثلة مجدداً ولا تطابق أو استنساخات، بل مجرد ملاحظة: في أي توافق رئاسي بين الحريري والفريق الشيعي، بوساطة عون ورئاسته، من المحذور بل المحظور بقاء جنبلاط خارج التسوية. صحيح أن ثمة كلاماً كثيراً يقال اليوم في هذا المجال. لا بل منذ تشكيل الحكومة السلامية. عن تبخر دور بيضة القبان وإلغاء علّة وجود القوى الصغيرة باتفاق القوى الكبيرة وعودة الأحجام الحقيقية إلى اللاعبين على التناقضات السابقة، واستعادة الأوزان الفعلية للمستفيدين من انعدام الوزن في ظل صراعات الكبار... كل ذلك في كفة النظريات، فيما الواقع اللبناني في كفة أخرى خاصة بل خصوصية. هنا لا صحة لمفهوم جماعة كبيرة وأخرى صغيرة. وهنا حق النقض المتبادل في النظام والواقع، لا يستمدّ مبدأه من الحجم أو الوزن. بل من مفهوم لبنان وجوهر وجوده. وما قد يفرضه تحالف أكثري متفرد اليوم على أقلية مستفردة، يمكن أن ينقلب غداً، بانقلاب التحالفات أو السياقات أو الموازين. وكل تاريخنا تأكيد على ذلك. لذلك لا تسوية وطنية من دون وليد جنبلاط ولا من دون سواه. تماماً كما لم يعد من مستقبل لأي كان في الوطن من دون تسوية كهذه.
يبقى ثالثاً، أن التوافق والرئاسة ليسا غايتين في ذاتيهما. بل المطلوب حلول وبرنامج حكم وطروحات إنقاذ. في التسوية الهندسية لم يحصل شيء من ذلك. ولم يقدم الاتفاق الحريري العوني أي مشروع إصلاحي هناك. خصوصاً أن تلك النقابة كانت تعطى كأحد أمثلة عدم الشفافية وتضخم الثروات وتكوين الصناديق المالية من دون منفعة عامة، مما أوجدته السياسات الحريرية في البلد. اتفق الحريريون والعونيون هناك، لكنهما لم يقدما لا تغييراً ولا إصلاحاً حتى الآن. هذا فضلاً عن أن الحريريين كانوا حتى الأمس القريب، يشنون حرباً شعواء في النقابة ضد رئيسها العوني، لمنعه من تغيير ما كان سائداً. وهم لا يزالون ينفذون الأسلوب نفسه حتى اللحظة، مباشرة ومداورة، في نقابة الأطباء، وضد رئيسها العوني كذلك، لمنعه أيضاً من تغيير ما هو معروف هناك. ونقابة الأطباء تشابه في «بيتها» صندوق الهندسة، كمثلين على عدم شفافية مرحلة حريرية سابقة...
لا يمكن لأي تسوية في الرئاسة أن تكون بغرض السلطة والمنصب والكرسي والمغنم وحسب. هي تسوية لصالح الناس، ولأجل الخير العام. وإلا تكون كارثة على أصحابها وختماً لنضالهم بغير ما بدأ وكان. وهذا يقتضي من الجميع الاستعداد ذاتياً لمقتضى كهذا. أول الاستعداد التخفّف من أحمال الماضي وأطماعه. وآخرها التكيف مع واقع الشراكة، بدءاً بقانون الانتخاب. وإلا نكون أمام نفاق، لا ميثاق، جديد.

يمكنكم متابعة جان عزيز عبر تويتر | @JeanAziz1