كان الرئيس بشار الأسد، يتحدث مع رفاق في حزب البعث؛ لكن الحديث جرى نشره على الملأ؛ حسم الرئيس، مجدداً، موقفه من الإسلام السياسي؛ فقرر أنه «سقط»؛ فبأي معنى؟ الحكم، هنا، شامل بالمعنيين، السياسي والأيديولوجي، أي كحكم واقع وكحكم قيمة.
في السياسة، لا يثير كلام الرئيس، إشكالا؛ فالمشروع الإخواني ـــ السلفي ـــ التكفيري، الذي كانت لحظة ما يسمى «الربيع العربي»، ذروته، سقط واقعياً؛ ففي مصر، انتهى حكم الإخوان المسلمين، سريعاً، ودخل هؤلاء في مأزق تاريخي من حيث الوقوع في عزلة لا مخرج، وطنياً، منها، والتشبيك، المتعدد الوجوه، مع المجموعات التكفيرية والإرهابية، والتحشيد ضد عناصر استقرار الأمن الوطني المصري. وبغض النظر عن كل النقاش حول مصر ما بعد الإخوان؛ فمصر، في النهاية، تعيش عهد... ما بعد «الإخوان»، لا بالإشارة، فقط، إلى الفترة الرئاسية للرئيس المعزول، محمد مرسي، ولكن بالإشارة إلى ثلاثة عقود مضت كان الإخوان، خلالها، قوة مهيمنة على الوعي المصري، والبديل ـــ المعترَف به شعبياً واقليمياً ودولياً للنظام المتهالك بقيادة حسني مبارك.
غرباً؛ ليبيا الإسلامية تحولت مستعمرة وفوضى، بينما استوعبت المملكة المغربية، لحظة الصعود الإخواني، واستهلكتها، وتبقى تونس، حيث أنقذ الإسلاميون أنفسهم بالقبول بموقع الشريك في ائتلاف وطني، لكنهم، ابتداء من التوقيع على دستور علماني، فقدوا الموقع القيادي في المجتمع.
شرقاً؛ انهارت هيبة «حماس» كحركة مقاومة؛ فقدت الاحترام والحلفاء والهيمنة الفكرية ـــ السياسية مذ غادرت دمشق ـــ عاصمة محور المقاومة ـــ وانتمت إلى المشروع القَطري ـــ التركي ـــ الإخواني، وانتهت إلى سلطة طالبانية في غزة، تبهظ حياة الأغلبية بالقمع الديني وترسل «المجاهدين» إلى أرض الشام! وتزفّ قتلاهم إلى شهادة مزعومة. وسقوط «حماس»، كقيادة مقاومة فلسطينية، فتح الطريق أمام التيارات الوطنية في «فتح» لاستعادة موقعها القيادي، فلسطينياً، ووجّه ضربة موجعة لإخوان الأردن، الذين تحولوا من قيادة المعارضة والسعي إلى الحكم، إلى ترجّي السلامة. وفي اليمن تلقى «الإخوان» ضربات قد تكون قاصمة. وفي العراق، حيث لم يكن هناك مشروع، بل مجرد اعتراض مدعوم من المشروع الاخواني ــــ التركي ــــ الخليجي، لم يعد هنالك فارق بين الإخوان و«القاعدة». ثم نأتي الآن إلى المعركة الكبرى في سوريا؛ أليست هذه، بالذات، معركة المصير بالنسبة للإسلام السياسي، بكل تلاوينه الوهابية والاخوانية والسلفية والتكفيرية الخ؟ الحرب في سوريا، كعمليات، لم تنته بعد؛ لكن الاسلام السياسي هُزم كمشروع سياسي بديل، انكشف وظهر كعنوان جامع لعصابات متوحشة وأدوات للعدوان الغربي والتركي والخليجي على الدولة والمجتمع والموقع الجيوسياسي ونمط الحياة في سوريا. وفي الميدان، تتجه الحرب الدفاعية ضد الإرهاب إلى الحسم.
الإسلام السياسي، إذاً، سقط، بالفعل، بوصفه مشروعاً سياسياً على المستوى العربي، وكلام الرئيس، هنا، له طابع التوصيف الواقعي؛ إنما المشكلة السجالية التي يثيرها الأسد، في هذا المجال، هي تلك التي تتصل بالبعد الأيديولوجي: أولاً، بشأن الهوية الأيديولوجية للدولة السورية، وثانياً، بشأن المقاومة، وثالثاً، بشأن الشريك الاستراتيجي لدمشق، المتمثل في حزب الله.
أثبتت التجارب أن أي تهاون إزاء الإسلام السياسي في سوريا، من داخلها أو خارجها، إنما يعني تفكيك الدولة الوطنية التي هي، موضوعياً، رابطة مدنية لمواطنين متعددي الأديان والطوائف والمذاهب، بحيث يغدو الربط بين أي منها والحقل السياسي، وصفة للحرب الأهلية. الأيديولوجيا القومية العلمانية، بالنسبة لسوريا، ليست اختياراً، وإنما ضرورة وجود.
في ما يتصل بالمقاومة؛ كان الأسد قد قال بشأن «حماس» إن عليها أن تختار بين مشروع الإسلام السياسي ومشروع المقاومة؛ فالمشروعان، عنده، لا يتطابقان؛ لكن ذلك لا يعني رفض العامل الإسلامي أو الخلفية الإسلامية كمحرك وجداني وعقائدي للمقاومة، لكن المقاومة لا يمكن أن تكون اسلاماً سياسياً.
حزب الله حزب اسلامي، لكنه لا ينتمي، في الممارسة السياسية والمشروع، إلى الاسلام السياسي، بمعنى إقامة نظام سياسي اسلامي، وإنما إلى مشروع وطني تحرري عنوانه المركزي مجابهة المشروع الصهيوني. وهذه المجابهة، بغض النظر عن منطلقاتها، هي، بطبيعتها، وطنية وجامعة، وذات مصلحة استراتيجية في الوحدة والتوافق والقبول بالآخر، وفق معيار وطني لا ديني ولا طائفي ولا مذهبي.