«من منظور المستثمرين الساعين إلى تحقيق الأرباح، فإنّ لبنان يمثّل خياراً بديلاً مناسباً يؤمّن عوائد عالية» على سندات الدين العام. خلاصةٌ يعرفها كلّ من لديه فكرة، ولو جزئية، عن كيفية إدارة هذا الاقتصاد الصغير المفتوح لصالح رأس المال. ولكن الخلاصة الجديدة في تقرير مصرف «باركليز» الذي يؤكّد هذه الوضعية، هو إشارته إلى أنّ «تقدّم» لبنان يعود إلى ضعف المنافسين.
يقول محللو المجموعة البريطانية في تقريرهم الفصلي الخاص حول البلدان النامية، إنّ لبنان بديلٌ من بلدان مشابهة أخرى في المنطقة، مثل مصر والمغرب، تسيل لعاب رؤوس الأموال التي تترصّد العوائد السخية في الأسواق الماليّة في البلدان النامية. برأيهم، أنّ الهوامش السخية اللبنانية تعود إلى واقع أنّ الدين محمول محلياً _ وأوّل حامليه المصارف، يليها مصرف لبنان في إطار إدارته اللعبة النقدية _ وبالتالي فإنّ ارتباطه بالعوامل الخارجية التي تؤثّر على الأوضاع الائتمانية للبلدان الناشئة ليس قوياً. بالاعتماد على هذا التحليل، يرفع البنك البريطاني تصنيف دين لبنان إلى درجة «حيادي» _ أي بمعنى آخر، لا طعم ولا لون يُمدحان فيه _ وذلك رغم استمرار الأوضاع المتدهورة في سوريا التي تضغط عليه. عموماً، قليلة هي اللحظات التي يبرز فيها لبنان لاعباً مستقلاً يُصنّف فيها على أساس مقوماته الذاتية. اليوم مثلاً، تنظر السوق إلى الإيرادات العالية التي يؤمّنها الاستثمار بدينه العام مقارنة بباقي بلدان المنطقة غير النفطية، لكي تفضله؛ الاختيار لا يتعلق بوضعه السياسي والاقتصادي بل بضعف المنافسين الأساسيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
هل تتغيّر نظرة السوق خلال المدى القصير، أي عندما تترتّب أمور مصر مثلاً بعد الانتخابات الرئاسية؟ لطالما أقلق سؤال كهذا مديري اللعبة اللبنانية. الأكيد هو أنّ السندات اللبنانية أداةٌ سخيّة لتحقيق الأرباح من وجهة نظر المستثمرين والمصارف، وفي الوقت نفسه فإنّ عجز الحكومة أساسيّ للاستمرار في طبع تلك السندات والإبقاء على تدفّق الأرباح في دفاتر النافذين. بنهاية عام 2013، بلغ معدل الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 146%، مرتفعاً أكثر من ست نقاط مئوية، بعدما تضخم الدين بنسبة تفوق 8% على أساس سنوي، وهي نسبة الارتفاع نفسها التي سجّلها عجز المالية العامّة. وفي ظلّ غياب الإصلاحات في السياسة المالية، من المتوقع أن يستمرّ التدهور في العجز مع ارتفاع عبء اللاجئين السوريين وركود النشاط الاقتصادي الذي يكبح توليد الإيرادات العامة، يتابع تحليل المصرف. هكذا «فإنّ تمويل العجز سيبقى معتمداً دوماً على السيولة الوفيرة في الجهاز المصرفي». في الواقع، يُقسّم العجز العام إلى جزءين. الأوّل هو العجز المباشر الذي يعكس الفارق بين النفقات والإيرادات، وسيبلغ هذا العام 4.8 مليارات دولار. أما العجز الآخر، الأكثر شراً، فهو السندات المستحقة والتي لا تملك الدولة الأموال لتسديدها. وهذا العام ستستبدل المصارف التجاريّة سندات دين بالعملات الأجنبية (يورو بوندز) بقيمة 3.4 مليارات دولار؛ إنّه العقاب المؤجّل على دين تراكم بفساد وسوء إدارة قلّ نظيرهما في العالم.
منذ فترة، يجري ضخّ مواد إعلامية ممنهجة _ وعلى نحو شرير أيضاً _ حول إمكان استخدام إيرادات النفط والغاز لتسوية ذلك الدين أو جزء كبير منه. وفقاً لتحليل المصرف الأميركي، Citi، فإنّ تطبيق استراتيجية للاستفادة من القطاع هو أساسي لتسوية مشاكل المالية العامة وقطاع الطاقة عموماً. نظراً للأوضاع السائدة، فإنّ تحوّلاً كهذا مستبعد، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون Citi أكثر تفاؤلاً لناحية النمو، حيث يتوقع إمكان وصوله إلى 2.5% هذا العام؛ البنك البريطاني يراه مكبوحاً عند 1.5% فقط. صحيح أنّ تقديرات المؤسسات المالية المختلفة قد تتفاوت لناحية التوقعات المالية، وذلك طبقاً للنماذج المختلفة التي تعتمدها، إلا أنّها جميعها تتفق على أنّ رأس المال بكلّ خلفياته يعتمد على وجود دورة شريرة واحدة: الأموال تتدفق إلى القطاع المصرفي، المصارف تموّل الحكومة بفوائد عالية، المستثمرون يلعبون بالسندات في السوق الثانوية ويحققون مع المصارف أرباحاً تتضخم باطراد.


يمكنكم متابعة حسن شقراني عبر تويتر | @HassanChakrani