«إن الرأسمالية والاشتراكية لديهما مشروع محدد حول كيفية خلق الثروة ورفع مستوى المعيشة. أما الشعبوية فهي تفتقد مشروعاً كهذا». آلان غرينسبان

طبعاً، يقصد غرينسبان، المحافظ السابق للاحتياطي الفدرالي الأميركي، أن ينتقد الشعبوية المعادية للرأسمالية، التي أصبحت النمط المسيطر على الحركات الاحتجاجية ضد مساوئ الرأسمالية المتصلة بسوء توزيع الدخل والبطالة، ولكنها تفتقد مشروعاً بديلاً من الرأسمالية.

إلا أن الخطر الحقيقي اليوم يتأتى من حركة شعبوية يمينية ناشئة في أنحاء العالم ناجمة عن أزمة الرأسمالية التي بدأت في عام 2008، التي أعلنت نهاية النموذج الرأسمالي الذي طغى منذ ثورة ريغان ـــ تاتشر في ثمانينيات القرن الماضي. فالرأسمالية اليوم في مأزق كبير، وتأتي هذه الحركة، وإن كان لها جذور في الفاشية الأوروبية، لتشكل رد الفعل على هذا المأزق. وتعتمد هذه الشعبوية اليمينية على إثارة الخوف لدى الناس من تدخل الدولة في الاقتصاد ومن الضرائب ومن دولة الرفاه الاجتماعي، مدافعة بشكل بدائي عن الحريات الفردية والاقتصادية، رافعة شعارات مثل «شيوعية أوباما» و«كسل اليونانيين» من أجل حرف السياسات المالية والاقتصادية التي اتبعتها الولايات المتحدة وأوروبا لمواجهة أزمة 2008، والتي كانت بمجملها عودة إلى السياسات الكينزية المعتمدة على تدخل الدولة في الاقتصاد، والتي أنقذت النظام الرأسمالي العالمي من الانهيار المحتوم.
ففي ظل أزمة الرأسمالية، تبيّن للكثيرين فشل الفكر الاقتصادي الرأسمالي الكلاسيكي وبدء صعود الكينزية مجدداً، بل كينزية يسارية جديدة، لا تشدد فقط على استعمال الإنفاق الحكومي من أجل إعادة الرأسمالية إلى توازنها، بل تدفع باتجاه اعتبار سوء توزيع الدخل والبطالة، اللذين ولدتهما رأسمالية ريغان ـــ تاتشر، أهدافاً أساسية يجب محاربتهما، وخير دليل على ذلك كتاب جوزف ستيغلتيز، كبير اقتصاديي البنك الدولي والحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، «كلفة عدم المساواة»، الذي يهاجم فيه أسس الرأسمالية الأميركية وسيطرة طبقة الـ 1% على الثروة، وربما أخطر ما فيه حديثه عن انتقال الولايات المتحدة من «الانسجام الاجتماعي إلى الحرب الطبقية»، وقوله «إن الأميركيين كانوا دائماً يتجنبون التحليل الطبقي، كنا دائماً نحب أن نعتبر أن أميركا هي بلد مكون من الطبقة الوسطى (...) حيث يجب ألا يكون هناك انقسامات بين الطبقات العليا والدنيا وبين البورجوازية والعمال (...) إن حركة الـ 99% تحاول أن تشكل تحالفاً جديداً لا يعتمد على الخيال المتمثل بكونية الطبقة الوسطى، وإنما على واقع الانقسامات الاقتصادية في اقتصادنا ومجتمعنا».
لم يبق لديهم
سوى التخويف
دفاعاً عن أفكار
تخطّاها الزمن

كما أن الاقتصادي الأميركي الشهير بول كروغمان، الحائز أيضاً جائزة نوبل في الاقتصاد، في كتابه «أنهوا هذا الكساد الآن»، الذي يهاجم فيه بشراسة السياسات الاقتصادية المحافظة في أميركا وأوروبا والتي تحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وتهدر إمكانية عودة اقتصادات دولها إلى التعافي، يقول في معرض تحليل اقتصادي ـــ سياسي لأسباب محاربة المحافظين لتدخل الدولة في الاقتصاد وتهليلهم لأهمية «التقشف» و«ثقة المستثمرين» كطرق لمعالجة الأزمات، إن هذه السياسات تخدم القوى المسيطرة في الاقتصاد. فأهمية «الثقة» أنها فكرة تستخدم كفزاعة من قبل رجال الأعمال ضد الدولة والمجتمع. ويستشهد كروغمان بمقالة للاقتصادي البولوني الماركسي الشهير مايكل كالسكي كتبها عام 1943، ليقول إنه «عندما يطرح عدم وجود طرق أخرى نحو تحقيق العمالة الكاملة في الاقتصاد غير استعادة ثقة قطاع الأعمال، يبين (كالسكي) أن هذا يعطي لوبي الأعمال حق الفيتو على سياسة الدولة، فإذا حاولت الدولة رفع الضرائب أو تحسين القوة التفاوضية للعمال، فإن لوبي الأعمال سيطلق تحذيرات شديدة الحدة من أن هذه السياسات ستؤدي إلى ركود اقتصادي عظيم (...) ولكن إذا اعتمدت سياسات نقدية ومالية كطرق نحو العمالة الكاملة، فإن أهمية ثقة رجال الأعمال تتلاشى وتصبح الحاجة إلى مراعاة الرأسماليين أقل بكثير». وفي إطار آخر، يقول جوزف ستيغلتيز في فصل من كتابه بعنوان «السياسة الماكرو ـــ اقتصادية بواسطة ومن أجل الـ 1%» إن «المصارف المركزية في أوروبا وأميركا أصبحت ممسوكة من قبل القطاع المالي (...) نحن لا نستطيع أن يكون لدينا نظام نقدي يسيطر عليه أناس مقبوض عليهم من المصارف ويدار بشكل فعلي من أجل مصالح الطبقات العليا».
إن أهمية أفكار هؤلاء الاقتصاديين تكمن في أنها تؤذن بنهاية سيطرة الفكر الاقتصادي الرأسمالي الحر على الخطاب الاقتصادي المعاصر وادعاءاته بمحض تقنيته، وتكشف الأبعاد الطبقية للنموذج الاقتصادي الرأسمالي والسياسات المتبعة من قبل الدولة والمصارف المركزية، بل إن الأخطر من ذلك أن هذه الأفكار تشير إلى إمكانية تلاقي الفكر النقدي للرأسمالية من داخلها مع الفكر الاقتصادي الماركسي الداعي إلى أن الحل النهائي لتناقضات الرأسمالية يأتي عبر تخطيها، وهذا التلاقي الكامن تعود جذوره إلى أفكار كينز نفسه الجذرية حول طبيعة الأزمة في النظام الرأسمالي، والتي تم طمسها في فترة العصر الذهبي للرأسمالية التي امتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي.
في خضم هذا، ينحدر الفكر الاقتصادي الرأسمالي إلى شعبوية مقيتة من دون أفق. وهذا ما نشهده الآن في لبنان في ردة فعل الهيئات الاقتصادية وأيديولوجيتها على مشروع سلسلة الرتب والرواتب. فالرأسمالية اللبنانية في أزمة، ومسلمات السياسات الاقتصادية المتبعة منذ عام 1992 تنهار تحت وطأة هذه الأزمة، ولم يبق لديهم سوى التخويف والتهويل دفاعاً عن أفكار تخطاها الزمن ومصالح لم يعد المجتمع اللبناني قادراً على تحملها بعد الآن.
* رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية