«إذا أردنا استحقاقاً وفاقياً (..) ويعبّر عن إرادة الشعب اللبناني، فلدينا طرق سلمية وقانونية ومدنية واضحة. أولاً رئيس توافقي (...). ثانياً، تعالوا نحتكم الى الشعب اللبناني. ألا يستحق لبنان وشعبه ومستقبل لبنان في هذه المرحلة الخطيرة جداً، أن يجتمع النواب ليعدلوا الدستور، ولمرة واحدة فقط، لينتخب الشعب اللبناني رئيسه مباشرة. وهناك خيار آخر (...) فلنأتِ بخمس مؤسسات استطلاع للرأي حيادية علمية موثوق بها لتبدأ استطلاعاً للرأي في لبنان، والشخصية التي تحظى بأعلى نسبة من التأييد، نذهب الى مجلس النواب وننتخبها رئيساً للجمهورية. وهكذا نحترم الشعب اللبناني». هذا الكلام ليس للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، الذي يقول منذ اسابيع كلاماً يكاد يكون نسخة طبق الاصل عنه، ويعلن في برنامج «كلام رئيس» عن استطلاعات للرأي تجريها بكركي لمعرفة اسم الرئيس الواجب انتخابه.

هذا الكلام هو للامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في يوم القدس في 6 تشرين الاول عام 2007. في تلك المرحلة كان لبنان يستعد للانتخابات، او بالاحرى للفراغ الرئاسي، وخروج الرئيس اميل لحود من قصر بعبدا من دون خلف. حينها ايضاً كان العماد ميشال عون قد بادر، في الاول من ايار من ذلك العام، الى طرح إجراء انتخابات مباشرة من الشعب، قائلاً: «إذا تعذرت الانتخابات النيابية، فانتخابات رئاسية مباشرة من الشعب لمرة واحدة». بعدها بأيام لاقاه نصر الله في حديث الى قناة «العالم»، مؤيدا هذا الطرح، الى ان حدد خياراته الثلاثة في تشرين الاول من العام نفسه. بين ايار وتشرين الاول قامت قيامة المسيحيين حينها، والمرشحون الموارنة وبكركي بقيادة البطريرك مارنصرالله بطرس صفير في الطليعة، انتقادا لفكرة الاستطلاعات والتعديل الدستوري لانتخاب رئيس من الشعب.
بعد سبعة اعوام على تلك المرحلة، يقف اللبنانيون اليوم في خضم الازمة ذاتها، عشية انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، واحتمالات الوصول الى فراغ مماثل، لكن في هذه اللحظات المصيرية، لم يصدر الكلام عن حزب الله او امينه العام، الذي لا يزال على مسافة بينة من الاستحقاق، ويترك كما تيار المستقبل الموارنة وبكركي الحالية، يتخبطون في ازمة الانتخابات. صدر الكلام هذه المرة من بكركي نفسها، بعدما طرح الراعي، من خارج كل التوقعات، فكرة لجوء بكركي الى استطلاعات الرأي لاختيار رئيس جديد والاحتكام الى ما يريده الشعب. لتكر بعدها سبحة الاستطلاعات من كل حدب صوب في حملة واسعة سياسية واعلامية.
يعرف المطلعون على اجواء بكركي من هو صاحب فكرة الاستطلاعات ومن يزكّيها، ومن يقوم بها ومن يمولها، وما هي النتائج التي خلصت اليها حتى الان، لكن ابعد من ذلك، وحتى عن «علمية» هذه الاستطلاعات ودقتها او نتائجها، ولمصلحة من تصب، فإن أي خطأ كارثي يكمن في التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي من زاوية استطلاعات الرأي، على غرار الانتخابات النيابية.
اولاً: خطورة مقاربة الاستحقاق الرئاسي من هذه الزاوية، أنها تصيب عمق النظام اللبناني. فالدستور واضح في مقدمته في تحديد دور الشعب، «فهو مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية»، لكن رئاسة الجمهورية ليست مؤسسة، بل هي مظلة البلد كله. والدستور واضح في المادة 49 بتحديد دور رئيس الجمهورية «كرئيس للدولة ورمز للوطن يسهر على احترام الدستور»، محددة انه ينتخب من مجلس النواب، لا من الشعب. الا اذا كان لدى البطريرك الماروني الحالي فكرة اخرى عن الدستور، الذي جهد المسيحيون وبكركي تحديدا منذ اتفاق الطائف للحفاظ عليه، وعدم المس به. وخطورة الايحاء بالاستطلاعات، وتحديدا من جانب بكركي، انها تعيد إلى الاذهان فكرة الاستفتاءات، وتفتح باباً جهد المسيحيون لإقفاله من باب التعديلات على الطائف والتلويح بالانتقال من المناصفة الى المثالثة.
في عام 2007 خرج الرئيس سعد الحريري للرد على نصر الله، لكن المسيحيين ظلوا على قلقهم من ان يستمر التهديد بالاستفتاءات الشعبية كواحد من الاسلحة السياسية. وحالما انطوى الحديث ـــ ولو اعتقد بعض السياسيين انه طيّ مرحلي ـــ عن الاستفتاءات والاستطلاعات من جانب الطرف الشيعي، جاء الراعي ليحيي مجددا قلقا مزمنا لدى ابناء رعيته.
فخطورة كلام الراعي انه يأتي في لحظات اقليمية حرجة، ويتعدى مجرد الكلام عن استطلاعات للرأي. لأن ما هو مسموح به لبعض السياسيين او وسائل الاعلام، من اجراء استطلاعات، او توجيهها وتجييرها، ليس مسموحا به لمرجعية بكركي، التي يكفيها ما ترتكبه. وما هو مسموح به في الاوساط السياسية ليس مسموحا لمرجعية يفترض ان تكون وطنية بحسب تاريخها.
ثانيا في الشكل. يختلف مفهوم الاستطلاعات في الانتخابات النيابية عمّا يجري اليوم في الانتخابات الرئاسية، لسبب بديهي يكمن في ان اللبنانيين غير معنيين بانتخاب الرئيس، فيما هم ينتخبون النواب مباشرة، ومعظمهم من الذين يتواصلون معهم في شكل يومي، وعلى صلة بهم. في الانتخابات الرئاسية تختلف الامور، فلبنان ليس فرنسا وليس الولايات المتحدة، حيث للمرشحين صلات ولقاءات وتجمعات انتخابية وحفلات مباشرة مع جمهور الناخبين، فضلاً عن أن تجربة الاستطلاعات التي حدثت عشية انتخابات عام 2009، كافية لاعطاء لمحة عن وضع العمل الإحصائي الانتخابي. فجميع العاملين في هذا المجال يتذكرون الاخطاء الجسيمة التي وقعت فيها بعض مراكز الاستطلاع عشية هذه الانتخابات، ومن هم الذين اعطوا تقديرات صحيحة، ومن اخطأ منهم. حتى في فرنسا، حيث العمل الاحصائي جدي ورفيع المستوى، جنحت الاستطلاعات عام 2002 فتوقعت تأهل المرشحين اليميني جاك شيراك والاشتراكي ليونيل جوسبان الى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، لكن زعيم اليمين المتطرف جان ماري لوبان، هو الذي تأهل لمنافسة شيراك.
واذا كان هذا الكلام لا يرمي الى التقليل مطلقا من قيمة العمل الاستطلاعي الجدي، الا اننا نعرف جيدا كيف تطبخ بعض الاستطلاعات في لبنان وكيف تجيّر، وكيف يجري اختيار العينات، وكيف ترتّب الاسئلة وتركب. ومشكلة بكركي في الدخول على هذا الخط، انها ستتحول مع أي استطلاع ومهما كانت نتيجة الفائز فيه، موقعا ممتازا للتصويب عليه.
في السياسة وفي الشكل، مرة اخرى تقع بكركي في اخطاء كانت بغنى عنها، لو انه يوجد فيها من يسمع، لكن في بكركي بات يصح القول الإنجيلي «مرتا مرتا تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب واحد».