سنة 77 عرفنا محجّبتين فقط من بين زميلاتنا في كلية الآداب بالجامعة الأردنية، بينما استطاع الرفاق تأسيس خلية للحزب الشيوعي في كلية الشريعة، وكنّا ننظر إلى «الإخوان المسلمين»، حسب نشرات الحزب، كـ «عصابة رجعية» تعمل لدى الأمن. وكان ما يحدث في ميادين الجامعة يعزّز لدينا هذا الوصف؛ فبما أن القوى الأمنية لم يكن مسموحاً لها بالدخول إلى الحَرَم الجامعي، كان «الإخوان» يتولون مهمة التصدي للمظاهرات والرفاق... بالجنازير.
انتشار الشيوعية، وقتذاك، كان يثير السخط والقلق لدى أستاذ في كلية الشريعة، اسمه عبدالله عزّام. كنا نتداول كتيّبه «السرطان الأحمر» للتسلية؛ فهو من الرداءة والجهل والطرافة، بحيث يصلح للتندر والضحك. فماركس حاقد على البشرية بسبب آلام مزمنة في معدته دفعته إلى كتابة «رأس المال» ــــ من الواضح أن عزام لم يكن قد رأى الكتاب بأجزائه المطبوعة وإنما سمع باسمه لا غير. إلا أن أكثر ما كان يغيظ الرجل هو أهزوجة «اتحاد الشباب الديموقراطي» في المظاهرات، والتي كانت لازمتها تلحّ على النضال المشترك: «الشبّ بجنب الصبيّة». كان عزّام مؤمناً بأن هذا «الفساد» سيدمّر الأمة! كان الرجل الأربعيني يعاني من كبت مرضي يتحول سعاراً محافظاً؛ فلم تكن زيارة السادات إلى «إسرائيل» لتهمه في شيء، بل تشابك أيدي الشباب والصبايا ضدها!
لم يمض وقت طويل، حتى فرّجتها واشنطن على عزّام، ومنحته فرصة القتال ضد «السرطان الشيوعي» في أفغانستان؛ هناك، أصبح زعيماً ومنظّراً لحركة المجاهدين التي تبلورت في تنظيم وخط «القاعدة»، ومنحه الله الشهادة في أرض الجهاد تلك.
في الـ 80 وما بعدها، بدأ انتشار الحجاب واللحية، وتكونت لدى «الإخوان» القوة الكافية لتنظيم مظاهرات جامعية ــــ وإنْ محدودة ــــ ما زلت أذكر شعاراتها: «الله أكبر ولو كره الشيوعيون»، «الله أكبر ولو كره النصارى»... الخ. وكان المزيد من شباب «الإخوان» و«الملتزمين دينياً»، يغادرون إلى الديار الباكستانية والأفغانية، للجهاد. وكانت السفارة الأميركية في عمان، تصف هؤلاء، في بوستر أنيق، بأنهم «مقاتلون من أجل الحرية»!
ذلك مسار خاص بـ «الإخوان المسلمين» والسائرين في خطهم؛ إنما كان يفيد من مسار أوسع وأشمل ولّده نجاح الإسلاميين في حسم الصراع على السلطة في إيران. في الواقع الملموس، كانت لقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية آثار متناقضة؛ فهي كانت، من جهة، ضربة استراتيجية للإمبريالية وإسرائيل، لكنها جاءت، من جهة أخرى، في مرحلة تراجع عربي، وقدّمت، من جهة ثالثة، المناخ الملائم لخروج «الإخوان» وتيارات الإسلام السياسي من ضعفها وعزلتها.
ما زلت على قناعة عميقة بأن الرئيس الراحل صدام حسين لم يهاجم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كونها ثورية أو معادية للإمبريالية؛ فالنظام البعثي العراقي كان أكثر تقدماً، في سياساته الاقتصادية ــــ الاجتماعية، من برنامج الثورة الإيرانية، وكان، كذلك، معادياً للإمبريالية وإسرائيل. إنما شعرت القيادة العراقية بالتهديد جراء الإلهام المحتمل ــــ بل والأكيد ــــ لإيران الإسلامية الشيعية، في أسلمة شيعة العراق وتالياً سنتهم، وانشقاق العراقيين، طائفياً. وهنا، ينبغي أن نتذكر جيداً أن الدعاية السياسية والحربية العراقية ضد الإيرانيين، لم تنح منحى مذهبياً أبداً، بل ظلّت ملتزمة بالأيديولوجيا القومية والعراقوية. وهو ما أسهم في تلاحم الجيش العراقي في الحرب، بغضّ النظر عن المذهبية. لكن مدحلة الأسلمة استمرت تتقدم؛ بعد العدوان الأميركي على العراق في الـ 90 / 91، استسلم صدام نفسه للأسلمة في الحملة الإيمانية المشهورة. وقد أظهر احتلال العراق، وسقوط الدولة الوطنية وتفكيك الجيش الوطني، أن المجتمع العراقي كان قد استكمل عملية الأسلمة والانشقاق المذهبي. وهذه النتيجة هي التي تمنع العراقيين، رغم الاستقلال الثاني وكثافة الموارد، من إعادة بناء الدولة الوطنية. وليس هناك ما يمنع الاستنتاج بأن النفوذ الإيراني الحالي في العراق، هو، أيضاً، متناقض؛ فمن جهة، يحدّ الإيرانيون من النفوذ الأميركي ويسهمون في اجتذاب بغداد نحو محور الممانعة، ومن جهة أخرى، فإنهم ساهموا ويساهمون في خلق المناخ الذي يعرقل استعادة الذات العراقية، المرهونة بالتخلص من الإسلام السياسي بشقيه، السني والشيعي، معاً.
التناقض الخاص بالدور الإيراني، لا يزال ــــ رغم خبرات الصراع في سوريا وعليها، في سياق كارثة الربيع العربي ــــ قائماً؛ لا تزال طهران تسعى إلى تعويم الاسلام السياسي، بينما يؤكد حلفاؤها في دمشق، على سقوطه: وجهتا نظر، تعكسان اختلافاً في المنهج والمصالح والاستراتيجية؛ إنما يتوجب على الطرفين أن ينظرا بواقعية إلى ضرورة التحالف الذي لا يتطلب من الآخر إلغاء خياراته المتوافقة مع احتياجاته؛ كان الاتحاد السوفياتي شيوعياً، وكان متحالفاً إلى أبعد حد، مع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، بينما كان يقمع الشيوعيين؛ زعامة بشار الأسد مهمة جداً لإيران، ولكنها غير ممكنة إلا في الصراع مع الإسلام السياسي من تركيا إلى فلسطين والمشرق كله إلى مصر؛ مشهد متناقض، لكنه منطق التاريخ.
7 تعليق
التعليقات
-
الطائفية نقيض الاسلام السياسييبدو انَّ الفكر الماركسي الذي يقول ان التاريخ عبارة عن تناقضات قد فعل فعله في هذا المقال ايضا. "النظام البعثي العراقي كان اكثر تقدما....تقدما!!!!! في سياسته الاقتصادية الاجتماعية من برنامج الثورة الايرانية.!!!!! لا اعرف مذا يقصد الكاتب بالبرنامج الاقتصادي الاجتماعي لصدام حسين ، اكيد لا يقصد برنامج صدام الاقتصادي القائم على المقابر الجماعية التي وصل البعض منها الى سبعين الف جثة. والاعدامات التي بلغت المليون (الموثقة بالارقام) او الاسلحة الكيميائية على حلبجة التي قتل فيها خمسة الاف.ريما مان الهدف الاقتصادي الاجتماعي لصدام من ذلك هو التقليل من التسبه العالية للسكان او تصفية الاضعف لبقاء الاقوى كما تفيد النظرية الماركسية الداروينية .وهي نفس السياسة التي مارسها "الرفيق"ستالين في روسيا باعدامه عشرين مليون شخص لأجل الانتخاب الطبيعي...اما ان الدعاية الحربية السياسية لصدام في الحرب مع ايران لم تنحو منحى طائفيا فهذا اعجب...الم يقرء الكاتب المغزى التاريخي لكلمة معركة القادسية ، ومذا عن قتله لمراجع الشيعة كالشهيد الصدر (الذي كان ابعد شيء عن الطائفية) وعن وال الحكيم واعتقاله لجميع علماءهم وتهجيره للباقين وقصفه لمقامات ائمة الشيعة كل ذلك ونعود لنلصق تهمة التحريض الطائفي في العراق بايران.ان كل الوقائع التاريخية تفيد ان اكثر الانظمة والاحزاب طائفيتا هي تلك التي كانت تدّعي العلمانية والتقدمية، خصوصا في الثمانينات. ان خطأ الاخوان المسلمين في مصر هو تحولهم بعد الثورة من الاسلام السياسي الى السنّية السياسية (لأجل فكرة التمكين) وكذلك هو خطأ الاحزاب الاسلامية الشيعية في العراق (بسبب سياسة صدام الطائفية والتفجيرات الانتحارية بعده) تحولو من الاسلام السياسي الى الشيعية السياسية...ولذلك ليس من خروج عن الطائفية الى بالعودة الى الاسلام السياسي.
-
رفيق ناهضرفيق ناهض, الخلية التي تشكلت في كلية الشريعة, طلعوا أفرادها مخابرات, احكي بقية الحكاية و لك الأجر انشالله.
-
تغليب الرئيسي على الثانوي من التناقضاتفي التناقضات بشكل عام وفي سياق التحليل الماركسي ما هو أساسي مركب ، ومنها ما هو رئيسي ومنها الثانوي . وبالتالي لا يجوز تغليب الثانوي منها على الرئيسي وإظهاره كأنه هو الأهم ، عندما يحل الرئيسي يتم التوجه إلى الثانوي لحله هو الآخر ، الأولوية للرئيسي دوماً ، الرئيسي الذي هو جزء من الأساسي الذي يكون مركبا من عدة تناقضات رئيسة التناقض القائم بين محورين : الأول تقوده روسيا ومن معها من دول الممانعة ، والثاني المقابل له والذي تقوده أمريكا ومعها الغرب بشكل عام وإسرائيل والرجعية العربية بأشكالها ، هذا التناقض هو رئيسي ، من هنا جاءت فكرة التحالفات ضمن كل محور منهما ، رغم وجود تناقضات ثانوية لا يمكن إغفالها بين المكونات لكل طرف ، ولكن النظرة الموضوعية تصنفها على أنها ثانوية وبالتالي لا يمكن تغليبها على التناقض الأساسي المركب والقائم بين المحاور. بالمحصلة فإن ما يجمع مكونات كل قطب يبقى أقوى مما يفرقه مما يجعل المعركة بينهما مستمرة ، مع التنويه إلى ضرورة حل التناقضات الثانوية ضمن حلف الممانعة حتى لا يتم استغلالها وتحويل النظر نحوها مما يؤخر أمر حسم التناقض الرئيسي المرحلي ، والذي بات قاب قوسين أو أدنى وفقاً لما نراه على الأرض .
-
ماركس وعبدالله عزام وناهض حترأستاذ ناهض, ها هو كتاب عبدالله عزام "السرطان الأحمر" بين يدي, ولم أجد فيه ما قلته من أن عزام قال "ماركس حاقد على البشرية بسبب آلام مزمنة في معدته دفعته إلى كتابة «رأس المال»". هناك عبارة واحدة أجدها قريبة لما قلت -ولكن لا تعطي نفس المعنى- يقول فيها:"يقول الماركسي "أتورهل" صاحب كتاب "كارل ماركس" فيصف ماركس بأنه كان على الدوام متقلبا مبتئسا حقودا ، لايزال في تصرفه عرضة لتأثير سوء الهضم وهياج الصفراء، وكان موسوسا يغلو كجميع الموسوسين في متاعه الجسدي.". أي أن عبدالله عزام نقل هذا الكلام عن أحد الماركسيين. وبغض النظر عن ان كان النقل أمينا أم لا, فالعبارة موجهة لشخص ماركس لا لنظرياته. أكون شاكرا لو حددت الصفحة التي تنقل عنها, ولدينا شجاعة الاعتذار. والا, فحضرتك -مع فائق الاحترام- مدين لنا بالاعتذار.