نادين أبو زكي*رحل نزيه خاطر. رحل واقفاً كحصان ينام. هكذا كان يتمنّى أن يموت. منتصب القامة من دون تراجع.
حين كان يمكث في الحياة كان يريد ذلك. وحين غادر، غادر لأنه اختار أن يغادر. اختار أن يجرّب رحلة أخرى.
كان نزيه رحّالة قبل أن يكون أيّ شيء آخر، وكان شغِفاً بالحياة. عاش رحّالة. رحالة في ذاته وفي الآخرين. بلا حياء. فأن تحيا يعني، عنده، أن تكون بلا حياء. هكذا تكون ما أنت عليه. وأن تكون ما أنت عليه، يعني أن تخون نفسك باستمرار. تلك هي قوة الحياة القصوى.

أذكر ذلك اليوم، يوم التقينا في المقهى. بعد الظهر ذاك، كان يلوذ في صمت عميق. بدا لي كمن يغرق في نفسه. سألته ما به. قال لي إنه أمضى صباحاً تعساً: «في حديقتي في الجبل، كانت هناك ثلاث شجرات وقد سقطت هذا الصباح. اقتلعتها العاصفة». وعاد إلى صمته من جديد. سألته لماذا هو حزين إلى هذا الحدّ؟ قال: «أبي غرسها وكان يحبّها كثيراً، ويعنى بها ويسقيها كل يوم. لكأنّ أبي مات اليوم مرة أخرى». وأضاف بمرارة: «أن نتكلّم يعني أن نترحّل. وأحسب أن قصاص الموت الأعظم هو السكوت. أن ندخل في عالم السكوت، يعني أن نموت. الجسد يقضي ويتفتّت، والسكوت يبقى. يغريني أن أختبر هذا السكوت».
ويتابع: «أحياناً أقول لنفسي إني متعب من التفكير طوال الوقت. فمن المتعب أن يفكر المرء في ذاته، لكن ليس بوسعي ألا أفكر فيّ. بيد أن ثمّة شيئاً محبّباً في ذلك: أن تفكر في ذاتك يعني أن تخترع ذاتك دوماً».
وحين سألته لماذا تقول «أن نتكلّم يعني أن نترحّل» أجاب: الكلام يخترق الهواء. لا توقفه الحيطان. فهو نوع ترحال: تتكلمين تترحّلين، تفكرين تترحّلين، تترحّلين تترحّلين. فالكلام يترحّل في الهواء كما يترحّل الجسد في المكان. أود أن أعتقد أن الكلمات تبقى صامدة في مكان ما. الهواء مليء بالكلام. وآمل أن تخترع يوماً ما آلة لتلتقط كلّ هذا». ثق يا صديقي بأن ذاكرتنا هي تلك الآلة الموعودة وأن كلماتك باقية فيها.
* رئيسة تحرير مجلة «الحسناء»