لا يولد الإنسان ديمقراطياً ولا ينشأ مستبداً، وإنما الظروف الاجتماعية والمناخ الثقافي المحيط هي التي تجعل منه كائناً يؤمن بالديمقراطية أو تدفعه نحو الاعتقاد في الطغيان. وهي قاعدة تنسحب على كل البشر حيثما كانوا. فالإنسان هو كان حيّ يتأثر بمحيطه الاجتماعي وما ينتجه من ايديولوجيات، منها ما تنغرس في صلبها قيم الحرية ومنها ما تتجذر فيها مبادئ معادية لها؟
لقد عاشت تونس منذ استقلالها عام 1956 عصراً من الانغلاق السياسي تأثر أساساً بعاملين: أولهما، الانتماء الحضاري لبلد يقع جغرفياً ضمن دائرة الفضاء المعرفي العربي - الإسلامي الذي لم يتخلص بعد من عباء ثنائية الصدام بين الحداثة والأصالة. وثانيهما، شخصنة الدولة الناشئة بعد الاستقلال وارتباط مصيرها بأهواء حكامها. 
فمنذ خروج الفرنسيين من الأرض التونسية، لم ينعم التونسيون سوى بنفحات قصيرة المدة من هامش من الحريات السياسية، تزامنت في معظمها مع أحداث اجتماعية سنعود إليها لاحقاً.
لم يكن الفائزون بالحكم فور استقلال البلاد على يقين تام بأنه كان بإمكان حكم دولة خرجت للتو من استعمار بغيض وتعيش على وقع الفقر والتخلف، بصورة ديمقراطية تتاح فيها الحرية للجميع. لم يكن يعتقد هؤلاء أن الحرية ممكنة للرعاع، إن صحت العبارة. فتونس آنذاك كان في حاجة إلى جهاز تنفيذي يحظى بقدسية لا توافرها له سوى آلة تسلطية قوية.
كان حبيب بورقيبة يمثل الأب أو رب العائلة الذي لا يدرك مصلحة أسرته سواه، ويتحكم في مصير مستقبلها، ويفرض عليها جميع قراراته. لقد تعامل بورقيبة مع شعبه وكأنهم أبناؤه الذين لا خيار لهم سوى الطاعة والخضوع. يقول الكاتب حسونة المصباحي، عندما كان ناشطا يسارياً ضد النظام في أواخر الستينيات من القرن الماضي، إن بورقيبة استدعاه بصحبة معارضين شباب آخرين الى قصر بعد أن أصدر عفواً عنهم. وكتب المصباحي: «وكان بورقيبة وقتها رحيماً إذ إنه لم يغضب بسبب نعتي له بالعميل الأكبر، بل اكتفى أن قال لي هل يمكن أن تصفني بهذه الصفة وأنا الذي حررت تونس، وبهدوء قال لي انا أنصحك أن تهتم بنفسك قبل أن تهتم بالسياسة. وسألني أيضاً كيف تسمح لنفسك بأن تكون ماركسياً لينينياً من دون أن تقرأ رأس المال وهذا شيء مخجل مقدماً لي النصيحة التالية عليك أن تقرأ قبل أن تتبنى أفكاراً لا تفهمها».
يتذكر أحد أعضاء بورقيبة أن استقبل يوماً مسؤولاً عن دولة اليمن الديمقراطي حينها، وبمجرّد قدوم الضيف سخر منه من دون الأخذ بعين الاعتبارات للبروتوكولات قائلاً: «هل أنتم فعلاً دولة ديمقراطية؟».
لم تكن التعددية الحزبية والحرية السياسية عند بورقيبة سوى ترفاً، وشأن تأتي أهميته خلف أولويات يعتقد بضرورة تكريسها في المجتمع. هو نشر التعليم العمومي ووضع مؤسسات الدولة العصرية وتحرير المرأة وتنظيم النسل هي التي كانت على رأس مشاغل الحكم طيلة أكثر من ربع قرن، هي مقومات حداثة لم يكن يرى الزعيم المجاهد أنه من السهل سنّها في مجتمع محافظ ورجعي من دون استعمال العصا الغليظة. 
تلك العصا التي لم ترحم أحداً، وطالت الجميع حتى أولئك الذين كانوا إلى جانبه أثناء معركة الاستقلال أو عند بناء الدولة البورقيبية، كانت تؤدب أي طفل يمرق عن الفكر الحداثي للقائد. وتزامن ذلك، مع التقلبات الجذرية التي أصابت المجتمع التونسي في مختلف المجالات. فوعيه البسيط لم يقبل بسلاسة مجلة تنظم الأحوال الشخصية (1956) تمنع تعدد الزوجات وتكفل الزواج المدني. ولم تستوعب دعوة بورقيبة للإفطار في شهر رمضان (1960)، ولا اغتيال القيادي صالح بن يوسف (1961)، ولا سن سياسة التعاضد الاشتراكية (1962).
كان لحبيب بورقيبة نموذجاً في الحكم يستقيم بما لا شك فيه بما اصطلح على تسميته بـ«المستبد العادل». لم يكن من اليسير على مجتمع لم يخرج بعد من بوتقة التخلف، ولم يتشبع بعد قيم الحرية والمواطنة أن يُفتح أمامه جميع فرص النشاط الأهلي والسياسي الحرّ. في حوار له مع صحيفة «لوموند» الفرنسية عام 1963، قال بورقيبة حول هذا الخيار إنّ تونس «في حاجة إلى قبضة قوية. فإذا اطلعتم على عقلية قسم كبير من الجماهير ستجدون أن تونس ليست Montparnasse. لهؤلاء الذين يطالبون بحرية النقد أجيب بأن التونسيين في حاجة إلى رجل وإلى نظام غير مشوهين في أعين الناس». لقد تخطى الأمر مسألة حاجة البلاد إلى سلطة لا حدود لصلاحياتها، ولا تتعرض إلى أية منافسة على شرعيتها، إلى حكم مفرط في الفردانية.
هذا التوجه الخطير، والذي لا يعدّ استثناءً في مجتمعات العالم الثالث، كاد أن يودي بالبلاد بعد مرورها بفترات اجتماعية عصيبة إلى أن تتجه نحو التفكك. وعندما تولى زين العابدين بن علي سدة الحكم عام 1987، شعرت الطبقة السياسية ناهيك عن الأهالي بالارتياح رغم أن الرئيس الجديد للبلاد خرج من عباءة ذلك النظام نفسه.
وبقدرة قادر، تحول رجالات الدولة الذين كانوا برفقة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة طيلة مشواره الطويل في الحكم، إلى أعضاد ومباركين لحكم الرئيس الجديد. وأصبح الحزب الحاكم يسمى التجمع الدستوري الديمقراطي (1988).
حينها، أطلق بن علي مساحة كبيرة من الحرية، وجمع معارضيه حول ميثاق الإنقاذ الوطني تعهد فيه بأن ينشر الديمقراطية، «فشعبنا جدير بحياة سياسية متطورة ومنظمة تعتمـد بحقّ تعدّدية الأحزاب السّياسيّة والتنظيمات الشعبية»، على حد ما ورد في بيان السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني فور توليه السلطة.
على الصعيد الشكلي، وُضعت أركان الدولة العصرية، وانخرطت البلاد في منظومة اقتصاد رأسمالية الدولة التي تتجه تدريجياً نحو النمط النيوليبرالي، واجتماعياً تراجعت أهمية «الدين الاجتماعي» (ماكس فيبر) وانفرطت عُقد العلاقات الاجتماعية ذات الأسس القبائلية والعروشية. ولم يعد ينقص سوى تركيز الديمقراطية وإتاحة الحريات السياسية.
وبعد سنوات قليلة في بداية التسعينيات، تقدمت تونس أشواطاً ذات شأن في هذا المجال، لكن سرعان ما جرى الالتفاف عليها بسرعة لتسقط البلاد في عشرية الرصاص إلى حدود ثورتها عام 2011.
لم يكن أمام بن علي أي موجب لإعادة نظام الاستبداد من جديد، بعد أن قطعت البلاد مسافةً هائلةً في العصرنة والتحديث. لقد كان بإمكان الرئيس المخلوع أن يلج بتونس بوابة الحداثة السياسية بأخف الأضرار التي طالت تجارب أخرى مشابهة. ولكن كانت أمامه أولويات أخرى.
وعلى عكس الحبيب بورقيبة، لم يكن يُواجه بن علي أي خطر ضخم من شأنه أن يحدث تقلبات في المجتمع سوى ذلك الآت من المدّ الاسلامي الذي كان يهدد سطوة حزبه. ذاك المدّ الذي تعاظم بقوة في الأيام الأخيرة من حكم بورقيبة، يرجع، في سبب من أسباب عنفوانه، إلى حالة القمع التي كانت تعيشها تونس منذ استقلالها. فالتطرف يولّد تطرفاً لا يقل عنه خطورةً.
من جانب آخر، لا يُمكن غض الطرف عن وجود سبب آخر، هو الأكثر وضوحاً، دفع ببن علي إلى التراجع عن وعوده في دمقرطة البلاد. إنها الرغبة في الاثراء غير المشروع وفي الاستئثار بخيرات البلاد التي وُزعت على المقربين منه. فلا مجال بالنسبة له لأي تعددية حقيقية من شأنها أن تضع حداً للفساد والسرقات.
ومنذ ذاك الحين، كانت تونس عبارة عن مزرعة خاصة لبن علي وعائلته، يتصرف فيها مثلما يشاء، تحت أعين مساعديه وقيادات حزبه. كانت شبكات الزبونية التي تغلغلت في كامل مؤسسات الدولة بمباركة مباشرة من حزب التجمع الدستوري تكبح جميع فرص ازدهار البلاد وانتعاش اقتصادها. إلى أن جاءت الثورة التي انتفض أثناءها الآلاف من التونسيين المتضررين من تلك السياسة. هبة لم تستطع أن تقف أمامها جحافل البوليس أو أن يحول دون انتشارها حزب ذو مليوني عضو وناشط.
وأسابيع قليلة بعد الثورة، كان من الطبيعي أن يجري خلالها حلّ التجمع الدستوري، ومنعه من النشاط السياسي، والتحجير على قادته من الترشح لانتخابات المجلس التأسيسي في شهر أكتوبر 2011.
وجاء قرار الحلّ على خلفية حكم قضائي من المحكمة، بينما كان من المفترض أن تتم العملية بشكل ذاتي أو طوعي؛ أي اجتماع أعضاء ذلك الحزب في مؤتمر استثنائي لحلّه. ولكن ربما ظن بعض منهم أنهم عازمون على العودة للساحة السياسية مرة أخرى، جعلهم يتهربون من انجاز تلك العملية.
إن قطاعاً واسعاً من
قيادات النظام السابق يتحمل مسؤولية ما حدث
في ربوع أخرى من العالم، عاشت تحولات مشابهة في الانتقال من العهد الاستبداد إلى زمن الديمقراطية، كان الوضع أكثر وضوحاً رغم التقارب الكبير في عدد من الجوانب مع «الربيع التونسي». ففي ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا والمجر وبولونيا ويوغسلافيا التي شهدت ثورات مماثلة لما حدث في تونس، وقع حلّ الأحزاب الستالينية الحاكمة، واندمج أعضاؤها في المجتمع السياسي بشكل مغاير عما كان عليه في السابق. فأتباع حزب العمال الموحد البولوني أسسوا الحزب الديمقراطي - الاشتراكي متبنين بشكل صريح قيم التعددية واحترام جميع حقوق الإنسان، لكنهم عجزوا عن مواصلة النشاط إلى أن اضمحلوا في حزب آخر عام 1999، وتمكنوا اثر ذلك من التموقع جيداً داخل المشهد الحزبي. وفي ألمانيا بعد الوحدة، أسس أتباع الحزب الاشتراكي الموحد المنحلّ حزباً جديداً هو الحزب الاشتراكي - الديمقراطي لم يحصل إلا على نسبة 10 في المئة من أصوات المقترعين خلال انتخابات شباط 1990، في حين فضّل المتشددون تشكيل الحزب الشيوعي الألماني الذي شارك في معظم المحطات الانتخابية وكان آخرها عام 2011، لم يحصل خلالها إلا على 0,2 من الأصوات. أما في دولة المجر، فتأسس حزبان على أنقاض الحزب الشيوعي المجري؛ الحزب الاشتراكي الذي لم يحصد سوى نسبة 10 في المئة من أصوات الناخبين، والحزب الشيوعي - العمالي الذي حاز ثقة 4 في المئة فقط من الأصوات في انتخابات عام 1990.
والملاحظ في هذا السياق، أن المشترك بين التجربة التونسية وعمليات الانتقال الديمقراطي في دول أوروبا الشرقية هو اتصافها بـ«النعومة»، فلم تُقم المجازر الدموية ولم تُنصب المشانق ولم يُسحل الأشخاص المُطاح بهم. ومنذ مدة قصيرة سُنّ قانون العدالة الانتقالية الذي سيُحاسب بشكل فردي كل الذين ارتكبوا تجاوزات تجاه تونسيين أثناء العهد السابق.
إن قطاعاً واسعاً من قيادات النظام السابق يتحمل مسؤولية قطعية وبارزة في ما حدث لتونس من استبداد سياسي ونهب ثروات، وهو أمر لا لبث فيه. وتحمله لتلك المسؤولية يفرض عليه، بشكل واضح، الاقرار بالأخطاء التي ارتكبت آنذاك والتي خلّفت جروحاً ومآسي لا تندمل بسهولة. وإذا حاول بعض منهم الاستفادة من خيبات سوء ادارة البلاد من طرف الفريق الحكومي الذي أمسك بالسلطة بعد الثورة، فإن هذا لا يشفع لهم أن ذنبهم السابق لا يُمحى بتلك البساطة التي يتوقعونها.
لقد تغوّل الحزب الحاكم المنحلّ بفضل خوف التونسيين وعدم تجرؤهم على مقارعة تجاوزاته. وبانتفاء حاجز الخوف، لم يعد لأنصار ذلك الحزب أية سطوة لهم على الناس. وما لم يعمل التجمعيون على القطع النهائي مع الارث الماضي، والإيمان بصورة نهائية بالديمقراطية شكلاً ومضموناً، فإنهم يكونون بذلك قد قضوا على مصيرهم السياسي من دون رجعة.
* صحافي تونسي