قد يبدو أمراً عادياً أن يقدّم بعض الشيوعيين تمييزهم الفكري «الإيديولوجي» عن الحركات السياسية الدينية. وهذا مدعاة للتوقف عنده ملياً حتى ولو كان في سياق الترف الفكري المجرد، باعتباره منزلق خطير في مؤداه، الذي يدفع - وبمعزل عن النيات ـ نحو التقوقع والانعزال عن حركة الواقع.
ويكون أكثر خطورة حين يطرح في سياق البحث عن الدور المنوط بالشيوعيين في مواجهة التحديات المختلفة، إذا ما نظرنا اليه في ضوء الوقائع الملموسة لحركة الصراع في مجتمعاتنا وما يواجهنا من تحديات، فيؤدي بمن يطلقون هذه المواقف ومن يتأثر بها الى التراصف في خدمة التعبئة الاستعمارية ضد قوى المقاومة لهذا الاستعمار، عبر التعميم التعسفي المساوي بين قوى المقاومة من جهة وأدوات الاستعمار في نسيجنا الاجتماعي من جهة أخرى، بحجة مضللة، باعتبارهم ينتمون فكرياً إلى «عقيدة» واحدة.
وهذا إن كان جانب منه تعبير عن جهل في الصيرورات التاريخية للفكر الديني، فهو أيضاً تعبير عن افلاس فكري وسياسي وكفاحي يجد ضالته في موقف كهذا للتعمية عن عجزه ولتبرير تقاعسه النضالي في المواجهة. وكما يبدو أن هذا الجهل لا يقتصر فقط على معرفة كنه الحركات الدينية بل أيضاً هو جهل لروح الماركسية وجوهرها.
إن ما يميّز الماركسية عن أي حركة فكرية تنويرية (علمانية)، والتي كسرت قيود التفكير الديني، هو تاريخيتها الثورية.
وعذراً إن اضطررنا إلى شرح مصطلح «التاريخية» بسبب التماثل الزائف الذي يقع فيه الغالبية العظمى ممن يقدمون أنفسهم كـ«ماركسيين» بين الماركسية وكل مناهج التفكير «العلماني»، والمذاهب الفلسفية المختلفة تحت عنوان «إعمال العقل».
منذ أن عمل ماركس على «نقد الفلسفة الألمانية» بشكل علمي وتاريخي كانت لديه منظومة مثلثة الأضلاع تشكل على أساسها مرتكزات منهجه العلمي: رأى أن «الفلسفة الألمانية» تسير على رأسها وتبحث في حركة الطبيعة من دون الولوج إلى حركة المجتمع وعلاقات الانتاج وما تعكسه من أثر في العلاقات الاجتماعية. فكانت «المادية التاريخية» (علم التشكيلات الاجتماعية) و«المادية الديالكتيكية» (علم التحولات في الطبيعة والمجتمع)، والأطوار التاريخية التي نشأت في ظلها المكونات المختلفة والمراحل التي تطورت فيها من حال إلى حال.
ومن ثم «الاشتراكية الفرنسية»، التي حررها من طوباويتها المعتمدة على الأخلاق والوعظ في ضرورة التكامل عبر منظومة «عادلة» تحكم البنيان الاجتماعي.
طبيعة الثورة لا تحددها نيات ورغبات النخب إنما هي تتحدد بحسب الطور التاريخي

والثالث: كان الاقتصاد السياسي الانكليزي الذي اكتشف من خلاله مصدر «القيمة الزائدة»، والتي من دونها لا يمكن أن تتشكل القيمة المضافة إلى «رأس المال».
وتلخص منهجية ماركس الثورية والتاريخية بمقولة هو نفسه صاغها ووضعها في مقدمة كتابه «الفلسفة الألمانية»، وهي «أنّ الفلاسفة نجحوا في تفسير العالم، إلّا أن المهمة تقوم في تغييره».
من هنا كان محتماً على الشيوعيين أن يجهدوا في البحث عن مناهج وآليات لعملهم وحركتهم التي تعكس هذا التحول العظيم من الفلسفة إلى العلم، من الوعظ إلى المشاريع والبرامج الذي يشترط القطيعة مع المناهج والأدوات الحركية السابقة. فلا تكون عندهم مقولات، أو مفاهيم أو آليات صالحة في كل زمان ومكان فهي تختلف بحسب الزمان والمكان تبعاً للخصائص التاريخية في المجتمع المعني.
فكانت أول ترجمة لهذا النهج، هي في تجسيد لينين «للمادية التاريخية والديالكتيكية» بمقولته الشهيرة: «الشيوعية في روسيا تعني كهربة البلاد وتوزيع الأرض على الفلاحين»، مع أن هذه كانت قد حققتها الثورة البرجوازية الفرنسية قبل عقود. وهنا يكمن إدراك الفرق بين الطور التاريخي في فرنسا المتسم بالثورة الصناعية المتقدم عنه في روسيا بأشواط تاريخية عدة. فلم ينتظر لينين أن تقوم البرجوازية الروسية في ثورتها. ولا قفز فوق الخصائص التاريخية الخاصة في بلده ليحرق مرحلة تاريخية لا بد منها لقيام المرحلة الاشتراكية. فطبيعة الثورة لا تحددها نيات ورغبات النخب إنما هي تتحدد بحسب الطور التاريخي والتحديات الملموسة في الميادين كافة.
على ضوء ما تقدم، وانسجاماً مع روح وجوهر الماركسية، يفترض في أيّ مقاربة لطبيعة المرحلة تعيين التحديات المركزية على كل المستويات، والتي تقف بوجه الارتقاء والتقدم الاجتماعي. ومن ثم تحديد المهمات الملموسة والتي تجد فيها شرائح اجتماعية تعبيراً عن مصالحها المباشرة والبعيدة المدى، شرط أن تكون هذه الشرائح تمثل كتلة وازنة في المجتمع وتقوم على كاهلها صيرورات الانتظام الاجتماعي. والكشف عن هذه الشرائح والعمل على كسب ثقتها وفهم مكنوناتها لحسن قيادتها نحو التقدم (وهذه عملية نضالية سياسية وإيديولوجية لا تخلو من المعضلات).
وليس في الإسقاط النخبوي للحلول محلها في تحديد تلك المصلحة، والعمل بما تقتضيه من دون اشتراطات مسبقة حتى تتحقق اللحمة والانسجام المؤديان إلى كسب ثقة الجماهير وإيمانها بالدور القيادي المنوط بالشيوعيين، ليكون الانتقال الثوري من الطور الراهن إلى طور أعلى.
لا تخلو تحدياتنا الوطنية – القومية، والسياسية الاقتصادية والاجتماعية من تعقيدات ومعضلات تحتاج إلى جهود جبارة في الجوانب النظرية والعملية كافة، كي نصل إلى رسم الخطط والبرامج التي تؤدي بنا إلى مصاف المرحلة التاريخية التي نعيش في ظلها، فتكون أمتنا جديرة بمقابلة الأمم الأخرى وتعيش في مفاعيل هذا العصر كقوة محركة وفاعلة وليست متلقية تنفعل بما يملى عليها وهي تملك من المقومات ما هو أعظم بكثير من أمم أخرى وجدت لنفسها موقعاً ودوراً تلعبه في مسرح الأمم. لا أن تكون مجرّد جمع بشري يتحكم في مواردنا ومسارات تطورنا المهيمن عالمياً وإقليمياً.
والتحدي الأول هو في الخروج من مستنقع الندب على حظنا العاثر والاقتناع أن ما نحن فيه ما هو إلا نتيجة للمفاهيم والسياسات التي جرى العمل بها طوال الحقبات السابقة. والإقلاع عن فلسفة الرهانات بتغيير الأوضاع التي نعيش في ظلها من تلقاء نفسها، أو عبر متغيرات إقليمية دولية.
فلا قيمة لأيّ كيان سياسي اجتماعي إلا بما ينتجه من قوة مادية وما تمثله من قيمة اجتماعية. وبقدر هذا التجسيد تتحدد قيمة وفعالية أي كيان. وإن أيّ ممارسة عفوية لا تستند إلى استراتيجية واضحة وترسم التكتيكات الملائمة لها تبقى مجرد نشاط عملي. وحدها القوة المهيمنة (داخلياً وخارجياً) تستطيع توظيفه بما يخدم مصالحها - حتى وإن كانت في ظاهرها نقيضاً للقوى المسيطرة ـ فضلاً عن أنّها تساهم بانفضاض الجماهير عن هذا النوع من النشاط، لأنها وبحسها العفوي تذهب إلى القوة التي تراها المحرك الحقيقي للأحداث والممسكة في دفة توجيهها.
من السذاجة الاعتقاد بأنّ الواقع الموضوعي يمكن أن يقف في الفراغ أو في حالة انتظار، بل هو في حركة دائمة والقوى الاجتماعية في مرحلة تاريخية تجد في الموروث التاريخي المعين الذي يشحنها بالقوة الروحية لمواجهة ما يهدد وجودها وحريتها ومصالحها. وإن كان الغرب الاستعماري ارتكز إلى فهم تناقضاتنا الاجتماعية والإثنية والعقائدية، ونجح في توظيف بعض من نسيجنا الوطني – القومي لحماية مصالحه وتكريس هيمنته واستئثاره في مواردنا، لا يمكن أن يستوي من قدم الصراع الداخلي على الصراع مع المستعمر وأدواته، بمن وقف بوجه هذا المستعمر وسطر في مواجهته ملاحم من البطولة والفداء.
إن أولوية الصراع مع المستعمر نفسه وأدواته المباشرة في كل الميادين (وفي طليعتها القواعد العسكرية وعلى رأسها الكيان الصهيوني، والشركات المستثمرة والناهبة لمواردنا الطبيعية، والعصبيات الكيانية الزائفة التي تكرس حالة التجزئة والتفتيت لأمتنا) هي في مقدمة أية حركة تريد حقاً أن تلعب دوراً تاريخياً لتجاوز المأزق الذي تتخبط فيه امتنا في كل اقطارها. ولا يتطلب الكثير من العناء ادراك أي من شرائحنا الوازنة التي نتقاطع معها على هذه الأولويات. ولا يضرنا أن نوصف هنا بالانحياز نحو قوى المقاومة بل هذا بحد ذاته يعد أولى الثغرات في جدار الفصل بين المكونات الاجتماعية ويصوب الاتجاه في الصراع ليفتح أفاقاً جديدة.
وحدها مفاعيل القوة الحية في دوائر أيّ حركة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو وطنية وقومية، تنعكس في ميزان القوى وتترجم صيغاً في تنظيم العلاقات بين كل مكوّن سياسي بعيداً عن النيات والفرضيات المسبقة.
* كاتب لبناني