قامت شركة «ليبان بوست» بصرف العديد من الموظفين. وعمدت الى تصفية البذور الأولى لنقابة الموظفين، ليتسنّى لها الاستفراد بهم الواحد تلو الآخر. كانت تبلغهم قرار الفصل من دون أسباب مقنعة في أحيان كثيرة. واللافت أنه لم يتجرأ الاتحاد العمالي العام، ولا أي نقابة عمالية، ولا أي مكتب عمّالي حزبي، على مواجهة عمليات الصرف الجارية، فضلاً عن استغلال مالكيها نفوذهم الكبير لاحتكار بعض أنشطة البريد ورفع الأسعار. هذه هي ثمار الخصخصة التي يطبّل لها يومياً.
قبل نحو شهرين، تبلّغ أحد قدامى موظفي «ليبان بوست» مذكرة بالحضور المستعجل إلى مديرية الموارد البشرية في الشركة. لطالما كان هذا الموظف قلقاً من حلول هذا اليوم. زملاؤه السابقون صرفوا من العمل بالطريقة نفسها فرداً بعد فرد، ويوماً بعد يوم. في كل مرّة كانت فيها إدارة الشركة تعتمد «إجراءات صرف سريعة وفورية؛ يُستدعى الموظّف بعد الظهر هاتفياً، ويطلب إليه تسليم كل شيء إلى من ينوب عنه والحضور إلى الموارد البشرية من أجل أمر ضروري وهام. وهناك يُفاجأ المستدعى بأنه يخضع لتحقيق موسّع ينتهي بالطلب إليه توقيع كتاب استقالته. وإذا لم يوقّع الاستقالة، ورفض تبلّغ الصرف، يؤتى سريعاً بموظفين اثنين من بين موظفي الموارد البشرية ليشهدا على أنه تبلّغ بإنذار الصرف».
هكذا كانت نهاية فادي (اسم مستعار) في شركة «ليبان بوست». بالنسبة إليه، كان قلقه الدائم من مجيء مثل هذا اليوم، أشدّ وقعاً من تبلّغه بإنذار الصرف نفسه. لكن هذه النهاية لم تكتب حديثاً، بل كتبتها إدارة شركة «ليبان بوست» منذ عام 2000. فهي منذ ذلك الحين تواظب على صرف الموظفين، وعلاقتها بهم متوترة دائماً.
10 ملايين
معاملة رسمية للمواطنين تتم سنوياً عبر «ليبان بوست»

لدى شركة ليبان بوست ما يكفي من النفوذ، فهي مملوكة اليوم من عدد من أصحاب الرساميل؛ بينهم رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. إلا أنها ليست مجرّد شركة خاصة، بل هي شركة محظيّة استطاعت أن تقدّم خدمات عامة بصورة احتكارية. وجودها في هذا الموقع بالذات هو نتاج الفساد السياسي. في الواقع، يروي المطلعون على ملف الشركة في وزارة الاتصالات وفي ديوان المحاسبة أن الشركة التي تُعرف باسم «ليبان بوست» كانت قد حصلت في آب 1998 على عقد حصري مع الدولة اللبنانية تحت اسم «بريد لبنان لتوزيع البريد ولتقديم خدمات للإدارات اللبنانية». مدّة العقد 12 سنة جرى تعديلها لاحقاً إلى 15 سنة، أي أنها تنتهي في آب 2014 (حالياً، تطبّق مدّة العقد اعتباراً من فترة بدء عمل الشركة الذي جاء بعد سنتين من توقيع العقد). يومها كانت «موجة الخصخصة» رائجة بين السياسيين اللاهثين لبيع الإدارات اللبنانية، فبيعت إدارة البريد بثمن بخس... الشركة التي فازت بالعقد يومها هي «بروفاك» المملوكة في غالبيتها من الإدارة الكندية لتنظيم البريد المعروفة باسم «كندا بوست سيستمز منجمنت ليمتد»، إلى جانب بعض الشركاء اللبنانيين؛ وأبرزهم ماريو سرادار.
العقد الموقع مع بروفاك، يضمن لها حصرية تقديم خدمات البريد في لبنان، أي أنه كان عقداً احتكارياً. لكن الشركة تذرّعت بأن الإدارات الرسمية في لبنان لم تطبّق الحصرية، ثم أعلنت لاحقاً عدم قدرتها على الاستمرار... عندها ظهر رجل الأعمال ـــ وزير الأشغال العامّة والنقل، في حينه، نجيب ميقاتي، واشترى حصّة الشركة الكندية ضمن اتفاق يقضي بأن تحصل الشركة الجديدة على ضمانات لتطبيق مبدأ حصرية الخدمات. هذه الصفقة أجريت في ظل حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري التي كانت تشجّع الخصخصة وتدفع في اتجاه إنجاحها كنموذج يرتكز على القطاع الخاص في مجال تقديم الخدمات العامة. وكان يُنتظر إسقاط هذا النموذج على باقي الإدارات العامة مثل المياه والكهرباء... غير أن الصفقة لم تكن تنطوي فقط على انتقال أسهم الشركة من مساهم إلى آخر وعلى ضمان الحصرية، بل كانت تشمل أيضاً تخفيض حصّة الأجور والتقديمات وتصفية نقابة مستخدمي «ليبان بوست». ففي مطلع عام 2004، كانت النقابة لا تزال في مهدها، لكن لم يطلع عليها ضوء السنة التالية، حتى أصبح كل أعضائها مطرودين من الشركة! الفساد السياسي لعب دوره بفعالية مطلقة. رئيس النقابة على قانصو، الذي كان محسوباً على أحد الأحزاب الأساسية، وافق على التعويض المالي المعروض عليه وانصرف. باقي أعضاء النقابة لوحقوا أيضاً. منهم من قبض تعويضاً للصرف، ومنهم من ينتظر.
وعلى مدى السنوات التالية، «استفردت» إدارة هذه الشركة بالموظفين واحداً تلو الآخر... لم يَسلَم أحد من تعسفها. بعض الأخطاء التافهة أو الصغيرة كانت سبباً للطرد، وبعض «الشكوك» أو «الظنون» كانت حافزاً للصرف التعسفي، وبعض «الإخبارات» من الزملاء أو من الزبائن تتحوّل سريعاً إلى مصدر لترهيب الموظفين والطلب إليهم توقيع استقالتهم. ثمة العشرات من الموظفين صرفوا من هذه الشركة. لم تتمكن أي جهة سياسية من الدفاع عن أيّ منهم... أما القانون، فهو أصلاً لا يحمي حقوقهم «لأن الدخول في معركة طويلة مع شركة كبيرة ونافذة مثل ليبان بوست سيدفع الشركة إلى تعليق كل مستحقاتنا في انتظار صدور الحكم الذي لا يصدر في العادة قبل ثلاث سنوات كحدّ أدنى» يقول فادي.
وبحسب مصادر في وزارة العمل، فإن هذه الشركات «النافذة» لديها القدرة على المماطلة وعلى الخداع بما يؤمّن لها ربحاً نسبياً في المعركة القضائية، بفضل الضغوط وجيش المحامين.
كل ذلك، حصل ويحصل على مرأى ومسمع من الذين يدّعون أنهم نخب سياسية واجتماعية ومفكّرون وحقوقيون... كان الاتحاد العمالي العام، ولا يزال، أول المتفرّجين. أما باقي النقابات المستقلّة عن الاتحاد فقد كانت «نائمة» أو «مشغولة» بأمور أكثر أهمية من تصفية نقابة موظفي ليبان بوست!
على أي حال، إن انتقال الملكية إلى ميقاتي، أطلق مرحلة جديدة في عمر الشركة، التي سرعان ما وقّعت اتفاقات مع الإدارات اللبنانية الرسمية تمنحها حصرية نقل معاملاتها وتسلّمها وتوزيعها... حتى أصبحت محفظة الخدمات في الشركة تشمل سلّة واسعة من خدمات الوسيط بين المواطن والإدارات اللبنانية في مجال: إجازات العمل، إخراجات القيد، السجلات العدلية، جوازات السفر، الإفادات العقارية، معاملات التنظيم المدني، التصاريح المالية، تراخيص حفر الآبار وتجديدها، معاملات الأملاك المبنية، فواتير الهاتف الثابت والخلوي، ميكانيك السيارات، تسجيل السيارات، الجريدة الرسمية، معاملات وزارة التربية...
لكن قصّة الصرف التعسّفي ليست سوى نتيجة من نتائج ممارسات الاحتكار. فعلى مدى السنوات الماضية، قرّرت هذه الشركة أن تزيد أسعارها بصورة دورية. فعلى سبيل المثال، كانت كلفة التصريح الضريبي الواحد تبلغ 5 آلاف ليرة حتى نهاية 2007، لكنها تضاعفت اليوم لتصبح 10 آلاف ليرة، مضافاً إليها دولار واحد كأجور متابعة الملف عبر خدمة الـ SMS، وفي غالبية الأحيان كان الزبون يدفع الدولار ظناً منه أنه أمر إجباري.
محفظة ليبان بوست من احتكار تقديم خدمات الوساطة الحصرية بين المواطنين والإدارات اللبنانية تزيد على 10 ملايين معاملة؛ أبرزها مع 70 ألف طالب في الجامعة اللبنانية يجرون معاملات تسجيلهم حصراً عبر ليبان بوست مقابل 10 آلاف ليرة عن كل معاملة، و500 ألف معاملة تصريح ضريبي مع وزارة المال. كذلك حصلت الشركة على سداد إيجارات غرف السكن في مدينة الحدث الجامعية مقابل ألف ليرة عن كل معاملة، ومعاملة دفع تأمين السكن كذلك مقابل 3300 ليرة...
أما بالنسبة إلى أداء هذه الشركة، فإن موظفي وزارة المال يقضون ساعات في التفرّج على الأخطاء الواردة في معاملات مقدّمة عبر ليبان بوست. بعض هؤلاء يتحدثّون عن عمليات «فكّ شيفرات» واردة في معاملات ليبان بوست. أما موظفو الشركة، فيشيرون إلى الأخطاء الكثيرة المتصلة بإجازات العمل والإقامات، فإذا انتهت مدّة الإقامة أو الإجازة قبل تجديدها، يدفع صاحب المعاملة غرامة تصل إلى ضعف المبلغ الأساسي. لكن هناك حالات كثيرة تشير إلى أن الزبون أتمّ واجباته وتقدّم بالمعاملة إلى ليبان بوست قبل وقتها، ثم تأخرت لدى الشركة وانتهت المهلة... و«دبّ المشكل» بين الزبون والشركة.