يعتبر الاسكتلندي مونتغمري واط (1909 ــــ 2006) من المستشرقين الذين كانت لهم دراسات موضوعية حول الإسلام. وضع مجموعة من الكتب أصبحت مراجع علمية، تعكس رؤية نقدية ومحايدة تبتعد إلى حد ما عن أطروحات الاستشراق الكلاسيكي. اشتهر واط بكتابيه «محمد في مكة» (1953) و«محمد في المدينة» (1956). بعد خمس سنوات، نشر «محمد: النبي ورجل الدولة» (1961) وبقي في رفوف المكتبة الإنكليزية حتى نقل أخيراً إلى لغة الضاد (دار التكوين، دمشق ــ 2014). بذل الباحث السوري حمّود حمّود جهداً كبيراً في ترجمته وتحقيقه لا سيما في القضايا المهمة إذ كانت الحواشي متناسبة مع المتن الأصلي.يعتمد واط على منهج النقدي التاريخي الذي استقاه من المستشرق الألماني الشهير ثيودور نولدكه (1836 ــ 1930). ليست المادة عملاً توثيقياً خالصاً، بل هي قراءة نقدية وسوسيولوجية لمسيرة محمد النبي ورجل الدولة. يرتكز الكتاب على فكرة عبقرية الرسول الدينية والسياسية والدبلوماسية في الحقبتين المكية والمدينية.

يضعنا في الإطار الزمني والتاريخي لظهور الإسلام في الجزيرة العربية إبان التنافس بين القوى العظمى، أي الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية. في محاولته لفهم رسالة محمد، يحيطنا بالسياق الديني للدعوة وتطورها الروحي ضمن بيئة مضطربة دينياً، أطلق عليها واط «التوحيد الغامض» الذي آمن به بعض المكيين المتنورين بفعل التأثير اليهودي _ المسيحي، قاصداً بذلك الحنفاء حيث يفترض أن محمداً آمن به منذ بداياته.
يدرس واط الإرهاصات الأولية التي رافقت انبعاث الإسلام. يخلص في تحليله الوضع الاجتماعي للمسلمين الأوائل إلى أنهم كانوا من الشبان الأقوياء والأشخاص الضعفاء (كلمة ضعيف تعني من دون حماية جيدة من العشيرة) وليسوا من العوام أو أعضاء الطبقات الدنيا، كما تشير بعض المصادر. ما يعني أنّ الحركة الإسلامية الوليدة كانت حركة شبابية وافدة من طبقة من المجتمع تلي مباشرة الطبقة الرفيعة التي تشكلت مع الازدهار التجاري المتنامي الذي عرفته مكة.
ينظر واط إلى النصوص المبكرة في القرآن باعتبارها تقف وتتقاطع مع التراث التوحيدي اليهودي _ المسيحي بمفاهيمه عن الله والخالق والقيامة والحكم والوحي. أما النصوص اللاحقة، فيظهر الاعتماد فيها على تراث الكتاب المقدس بشكل أكثر وضوحاً ودلالة، ذلك أنّها تتضمن الكثير من المواد من العهدين القديم والجديد. هذا الاستنتاج يحيلنا على إشكالية التناص بين النصوص المقدّسة تحديداً على مستوى القصص القرآني. تحدث المفكر الجزائري محمد أركون (1928ــ 2010) ضمن مشروعه الكبير «نقد الفكر الإسلامي» عن «التداخلية النصانية» بين القرآن والنصوص الأخرى التي سبقته. المدة الطويلة جداً عنده تشمل ليس فقط التوراة والإنجيل، وهما المجموعتان النصيتان الكبيرتان اللتان تتمتعان بحضور كثيف في القرآن، بل ينبغي أن تشمل أيضاً الذاكرات الجماعية الدينية الثقافية للشرق الأوسط القديم.
لم يكن المسلمون الأوائل من العوام أو أعضاء الطبقات الدنيا
في مقاربته علاقة القرآن بسياقه الاجتماعي، يرى واط أن الوضع الذي انبثق منه الإسلام تقاطع مع التناقض والصراع بين موقف المكيين الذين يحملون الرؤية البدوية، وبين الأوضاع المستجدة التي خلقتها البيئة المادية التي وجدوا أنفسهم فيها. يفترض أن نمو النزعة الفردانية التي أخذت تحل محل التضامن القبلي في مكة نتيجة الازدهار الاقتصادي، دفعت الخطاب القرآني نحو المطالبة بمساعدة أفراد المجتمع والاهتمام بالضعفاء والفقراء. تخوف تجار مكة النافذون من الدين الجديد، فنظروا إليه بوصفه تهديداً لمصالحهم ما قد يؤدي إلى تجاهل قدسية مكة، وتالياً الحط من تجارتها أو تدميرها.
يعالج واط موضوع «الآيات الشيطانية» وإبطالها، ويجري نوعاً من التحليل السياقي لها. يتناول الجدال الفكري بين محمد ومعارضيه طوال الفترة التي أمضاها في مكة. تمحور الجدال حول ثلاث قضايا: بعث الأجساد يوم القيامة التي لم يكن المكيون يعتبرونها منطقية، هجوم القرآن على الأوثان في حين أن الوثنيين اتخذوا موقفاً دفاعياً، وانتقادات لمكانة محمد كونه رسول الله. يستفيض واط في تحليل بنية الصراع الاجتماعي والسياسي والديني بين الرسول وأعدائه زمن النبوة، في المرحلتين المكية والمدينية. الأهم في البنية التحليلية التي قدمها قوله إنّ محمداً تمكن بقدرته الإبداعية كنبي ورجل دولة من تجاوز مخاطر عدة هددت دعوته والجماعة المؤمنة. ويعرض الباحث بشيء من التفصيل تاريخ الهجرة إلى المدينة والمشاكل التي واجهت محمد والمسلمين. ويلحظ أنّ عرب يثرب تأثروا بالأفكار اليهودية عن موعد مجيء المسيح المخلص وكانوا على استعداد لقبول الدين الوليد.
يتناول واط عداء اليهود لمحمد ومعارضتهم لرسالته التوحيدية وتخوفهم على نفوذهم السياسي. لعل الجانب الفكري في الخلاف هو الأكثر أهمية. كانوا يهاجمون كل ما بنى عليه محمد رسالته من أفكار، إذ أكدوا أنّ بعض الأمور التي جاء بها القرآن تتناقض مع العهد القديم الذي بحوزتهم، وعليه فالقرآن ليس وحياً ومحمد ليس نبياً.
في موازاة البعد العقائدي، دعم اليهود المكيين في حربهم ضد محمد، ما أدى على فترات متلاحقة إلى طردهم رغم أنّ الرسول سعى بدايةً إلى الصلح معهم. يطرح واط سؤالاً افتراضياً: ماذا كان سيحدث لليهود لو أنهم قبلوا بشروط محمد بدلاً من معارضته؟ كانوا في فترات محددة سيحصلون على العديد من الشروط التي تقف في صالحهم بما في ذلك استقلالهم الديني. وبناء على ذلك، يغدو اليهود مشاركين في الامبراطورية العربية. كم كان وجه العالم سيتغيّر لو أن ذلك قد حدث؟ يجري واط رصداً لتداعيات «غزوة أحد» بين المسلمين في يثرب وأهل مكة من قريش وبعض كنانة والأحابيش وثقيف. من بين الموضوعات التي يدرسها أيضاً الإصلاحات التي أجراها محمد على مستوى الزواج والميراث نتيجة التحولات التي فرضتها الغزوة.
يحدد صاحب «تاريخ إسبانيا الإسلامية» المواصفات الذاتية التي ساعدت محمد على نشر الإسلام وبناء نفوذه السياسي. كان بصيراً قدّم للعرب هيكلاً من الأفكار وحلولاً للتوترات الاجتماعية التي كانت قائمة بينهم وعُبِّر عنها قرآنياً، واتصف بحكمته كرجل سياسي وبمهارة وبراعة إدارية.
يتساءل واط في ختام كتابه: هل محمد نبي؟ كان يملك دفقاً من الخيال المبدع الذي قد نجده في حالات ملحوظة عند الفنانين والشعراء والكتاب. ولا بد من التأكيد ــ كما يخلص المؤلف ــ إلى أن الأنبياء يشتركون في ذلك. لقد كان رجلاً يعمل فيه الخيال المبدع في مستويات عميقة ذات صلة بالقضايا الحقيقية للوجود الإنساني. يذكرنا واط بالتفسير الذي خرج به المفكر الإيراني عبد الكريم سروش الذي اعتبر الوحي هو الإلهام والتجربة نفسها يخضع لها الشعراء والمتصوفة، ورأى الوحي نابعاً من الإلهام من «نفس» النبي و«نفس» كل انسان إلهية. يختلف النبي عن الآخرين، بأنّه ادرك إلهيّة هذه النفس، وحوّل هذه الحالة من القوة الى الفعل، فاتحدت نفسه مع الله. كُتب الكثير عن محمد ورسالته، وبمقدار ما يحظى هذا التاريخ من استدراكات كثيرة ومتشعبة بمقدار ما ينمّ عن جاذبية الإسلام ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.