أرست موجة «الربيع العربي» تقاليد جديدة في الإعلام، العربي منه على وجه الخصوص. تقاليد أقل ما يقال عنها أنها لا تتوافق مع القواعد العريقة للمهنة. لا ننسى مثلاً ظاهرة «شاهد العيان» الذي حالما اختفى من المشهد السوري لمصلحة «أبو عبدو الديراني» ونظرائه، حتى عثرت عليه قناة «الجزيرة» يتمشّى في مصر، فبات حاضراً في معظم «تغطياتها» لأخبار المحروسة.
وإذا كان استخدام السيد «شاهد عيان» قد ارتبط أساساً بقناة باتت واضحة التوجهات السياسية، وانجرفت إلى الهاوية الميكيافيللية «الغاية تبرر الوسيلة»، فثمة تقليعات أخرى حضرت عبر كثير من وسائل الإعلام، بما فيها العالمية... وسائل من مختلف التوجهات السياسية، بل إن بعضها يمكن اعتباره حيادياً (إلى حدٍّ ما).
تبادل الأماكن بين وسائل الإعلام المحترفة ومواقع التواصل الاجتماعي، يمكن إدراجه في مقدمة تلك التقليعات. مواقع التواصل لم تُنشأ لتكون مصدراً معلوماتيّاً تنهل منه الوسائل المحترفة، رغم أنّها سدّت في الكثير من الأوقات فراغاً كبيراً لجهة نقل المعلومة من المناطق الساخنة التي قد تتعذر فيها ممارسة العمل الإعلامي، فتحوّل «المواطن الصحافي» إلى شاهدٍ ملك. لكن ذلك لا يعني التسليم المُطلق بإفاداته، وخصوصاً من قبل وسائل إعلام يُفترض أنها تحرص على مقوّمات المهنة ومواثيقها. ومن المعروف أنّ «المواطن الصحافي» جزء من النسيج المجتمعي الذي ينتمي إليه، وبالتالي فإنّ له موقفاً مما يدور حوله، ولا سيّما في ظل أزمات شديدة الاستقطاب، كالأزمة السورية. وليس بالضرورة أن يدفعه هذا الموقف إلى فبركة الأخبار، لكنّه قد يراها أساساً بعينٍ تجافي الموضوعية، وتتواءم مع ميوله وأهوائه، مع الأخذ في الاعتبار أنّ هذا الصحافي الطارئ لم ينل حظاً من التهييء المهني، أو الاطلاع على المواثيق الإعلامية. وعلى الرغم من كل ما سبق، ربما أمكن تبرير لجوء وسائل الإعلام التقليدي إلى مصادر من هذا النوع، في ما يتعلق بالأخبار الميدانية للمناطق الساخنة على وجه الخصوص، رغبةً منها في البقاء ضمن دائرة المنافسة. لكن ما لا يمكن تبريره، هو وقوع وسائل يُفترض أنّها عريقة في فخاخ «السوشال ميديا» حين يتعلق الأمر بشأن يمكن التوثق منه، بقليل من الجهد أو الفطنة. وفي هذا السياق، تبرز أمثلة كثيرة، نعرض ثلاثة منها، وجميعها مرتبط بمحرقة «السبق السوري».
أخطاء المؤسسات انسحبت على الأخبار
التي يمكن التأكّد منها بقليل من الجهد

في 11 نيسان (أبريل) الحالي، سارعت «الحياة» إلى نشر خبرٍ بعنوان «مستشارة الأسد تنتقد وسائل إعلام صديقة عزت صمود دمشق إلى أحزاب ودول». وفيه تبنت الصحيفة السعودية كلاماً منسوباً إلى المستشارة بثينة شعبان، ومما جاء فيه: «بعض المحطات الصديقة أقدمت في الآونة الأخيرة على بث مقابلات وتقارير توحي نوعاً ما بأنّ سوريا ودولتها لم تكن لتصمد لولا دعم فلان وفلان من الدول والأحزاب، وهذا أمر مرفوض. سوريا صمدت بشعبها الذي قدم إلى الآن أكثر من ربع مليون شهيد». وكما بات معروفاً، فقد تبيّن أنّ الصحيفة نقلت هذا الكلام عن صفحةٍ تنسب إلى شعبان على فايسبوك، لتجد نفسها مضطرة إلى استبدال الخبر (وعبر الرابط الإلكتروني نفسه) بآخر يحوي نفي شعبان علاقتها بالصفحة أو التصريحات. ومن البديهي أنّ قول شعبان يومها «كان على «الحياة» أن تتصل بي للتأكد» هو تذكير بأبسط قواعد المهنة.
قبلها بثلاثة أيام، وقعت وكالة «يونايتد برس إنترناشيونال» العالمية ضحيّة شريط تهكمي نُشر على يوتيوب، منسوباً إلى أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم «دولة الإسلام في العراق والشام» (داعش). وفيه يتحدث الشخص الذي يؤدي دور البغدادي عن نيات «داعشية» لـ«أكل لحوم الأتراك». ويحفل الشريط بمفردات مثل «المندي، والكبسة، والبسطرمة، والكولا الشاي التركي... إلخ». لكن الوكالة لم تنتبه إلى المحتوى الساخر للشريط، ولا إلى اختلاف الصوت عن صوت البغدادي، رغم أنّ صوته بات حاضراً ويتكرر. وتجشّم محررو الوكالة عناء تحويل التسجيل الصوتي إلى خبر عاجل، تلقفه عدد من وسائل الإعلام!.
وإذا انتقلنا إلى تويتر، طالعتنا أمثلة كثيرة عن المقالب التي «شربتها» وسائل الإعلام بسببه. ومن أشهرها، تلك الصورة التي نُشرت للطفل السوري مروان التي تناقلتها وسائل الإعلام حول العالم ووقعت في فخّها. هي حالات ثلاث، يبدو للوهلة الأولى أنّ الإعلام المحترف كان ضحيّة غيره فيها. لكنّ جوهر الأمر أنّ بعض الإعلام وقع، ويقعُ، وسيقعُ، ضحيّة خيانته لمبادئ المهنة، ومواثيقها، وتقاليدها
العريقة.