«لقد كانت حرباً طبقية في العشرين سنة الماضية وطبقتي هي التي انتصرت» وارن بافيت

استمر الهجوم على سلسلة الرتب والرواتب. إذ حُذِّر من الوقوع في «الحفرة اليونانية» ومن «7 أيار اقتصادي» بدلاً من استغلال فرصة تحويل مجلس النواب المشروع إلى لجنة نيابية - وزارية من أجل إطلاق ورشة نقاش لتبيان الوقائع والحجج بعيداً عن الضجيج الذي خلق حول السلسلة ووقعها.

في هذا الإطار لا بد من تأكيد الآتي:
أولاً: إن الوضع المالي للدولة اللبنانية حالياً نشأ عن الخطأ الأساسي الذي حصل في عام 1993، أي عندما تزامنت مرحلة إعادة الإعمار، وما انطوت عليه من إنفاق توسعي، مع خفض الضرائب على الأرباح والأجور لتحويل لبنان إلى «جنة ضرائبية»، تطبيقاً لسياسة اقتصادية تخطاها الزمن في تلك الفترة عُرفت بسياسة «جانب العرض». تقول هذه السياسة إن خفض الضرائب على الأرباح والأجور يؤدي إلى زيادة العمل والاستثمار، ما يحفز النمو الاقتصادي. وقد فشلت هذه السياسة، قبل تطبيقها في لبنان، في الولايات المحتدة الأميركية خلال عهد ريغان في أوائل الثمانينيات، إذ أدت أيضاً إلى تنامي الدين العام وعجوزات الخزينة في أميركا لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد استدعى هذا الفشل أن يطلق جورج بوش الأب (الجمهوري) على هذه السياسة والنظرية الاقتصادية «اقتصاد السحر».
أدت هذه السياسة في لبنان، مع ارتفاع الفوائد, الى ارتفاع الدين العام من 2,5 مليار دولار في 1992 إلى نحو 64 مليار دولار حالياً.
ثانياً: كان من الممكن أن يكون هذا الارتفاع الكبير في الدين العام غير مؤذ للاقتصاد، لو أن الناتج المحلي (نتيجة للنمو وللتضخم) ارتفع بوتيرة مماثلة أو حتى أقل بكثير، بحيث نكون اليوم نشهد نسبة دين عام إلى الناتج المحلي أقل من 100% بدلاً من الـ 145% (ومرشحة للارتفاع) حالياً. لكن ارتفاع الفوائد (نتيجة الحاجة إلى جذب الاكتتابات في سندات الخزينة وجذب رؤوس الأموال من الخارج) والارتفاع الحقيقي لسعر الصرف (نتيجة التثبيت النقدي) أديا إلى تراجع الاستثمار وخسارة الاقتصاد اللبناني للتنافسية العالمية، ما أدى إلى خلق اقتصاد منخفض النمو لا يخلق الوظائف، وتراجعت فيه القطاعات الإنتاجية (مثل الصناعة والزراعة) وذي قدرة تصديرية ضعيفة ويعتمد على التدفقات المالية الخارجية، ومن ضمنها أموال المغتربين والعاملين في الخارج (الذين هم إحدى نتائج هذا النموذج الاقتصادي)، التي تذهب بأكثريتها إلى الاستهلاك ورفع أسعار الأصول العقارية بدلاً من تمويل اقتصاد منتج. تجربة الفورة الاقتصادية في 2007 ـ 2010 خير دليل على ذلك. ففي تلك الفترة ظن الكثيرون أننا بدأنا مرحلة عكس نمو الدين العام إلى الناتج المحلي، إلا أننا عدنا منذ عام 2012 إلى الارتفاع نتيجة انخفاض النمو وانتفاء الفوائض الأولية للخزينة الناتجة أصلاً، ولو بصورة جزئية، من عدم وجود موازنات لفترة طويلة، ما أدى إلى انخفاض قسري في الإنفاق الحكومي.
إذاً، النمو الحقيقي لم يستطع حل مشكلة تنامي الدين. فماذا عن التضخم؟
الخوف مصطنع
لتبرير حرب طبقية شرسة ضد العمال والموظفين والطبقة الوسطى


ثالثاً: بدءاً من عام 1997، عندما تبين التناقض بين سياسة التثبيت النقدي من جهة وأوضاع المالية العامة المتدهورة من جهة أخرى، كان أمام لبنان خياران: الأول، كان اتباع سياسة تضخم مدار عبر إضافة مرونة، وإن غير كاملة إلى سعر الصرف وخفضه، وذلك لخفض قيمة الدين والفوائد الحقيقية وسعر الصرف الحقيقي والبدء باتباع سياسة اقتصادية جديدة تبني على ما تحقق نتيجة الإنفاق الاستثماري لإعادة الإعمار بين سنوات 1993 ـ 1997 لإقامة اقتصاد منتج وتصديري متوأماً مع الرأسمال البشري الكبير الذي يختزنه لبنان. طبعاً، كان هذا الخيار صعباً لأنه يتطلب إدارة اقتصادية معقدة بالإضافة إلى المقدرة على تحمل تبعاته التوزيعية، إذ في ظل اقتصاد مدولر، كان لهذه السياسة أن تترك تأثيرها في ثروات ودخل العملاء الاقتصاديين وعلى رأسهم المصارف، بسبب عدم التناظر بين الموجودات والمطلوبات بالليرة اللبنانية وبالدولار الأميركي، وأيضاً بسبب التوزع غير المتناظر بين الدائنين والمدينين في العملة نفسها. وهذه الصعوبة، وربما بسبب عدم اقتناعها بالحاجة إلى التغيير، دفعت حكومة الرئيس الحص إلى الاستمرار في السياسة القديمة ما عدا إصلاحات ضريبية خجولة ومحاولة حل الأزمة المالية للدولة عبر التقشف. أمّا الخيار الثاني الذي اتبع، فهو الحفاظ على سياسة التثبيت النقدي، ما استدعى الاعتماد أكثر فأكثر على الاستدانة بالعملة الأجنبية من قبل الدولة، وأدى إلى ارتفاع مطرد لقيمة الدين العام بالعملات الأجنبية، وصولاً إلى نحو 40% اليوم. واستدعى أيضاً الاعتماد على التدفقات المالية الخارجية، ومن بينها الودائع الخليجية المباشرة لدى مصرف لبنان، وصولاً إلى خطة الإنقاذ المالية في عام 2002 في باريس ـ 2. وهذا ترافق مع دخول الاقتصاد اللبناني في مرحلة ركود في عام 1998 وتراجع لمعدلات التضخم. أما على المدى الطويل، فأدى هذا الخيار إلى استمرار ارتفاع الدين العام، وصولاً إلى حد 180% من الناتج في عام 2006 (أكثر من اليونان!) وبهذا الخيار أيضاً ثُبِّت التحالف الثلاثي بين الدولة والمصارف والمصرف المركزي للحفاظ على استقرار سعر الصرف وإقامة ما سمّاه بعض اقتصاديي صندوق النقد الدولي النظام «الماكرو ـ مالي» المعتمد على تمويل المصارف للدولة، المستند إلى تدفق رؤوس الأموال من الخارج، والفروق بين الفوائد على الودائع والفوائد على سندات الخزينة، إضافة إلى استحداث مصرف لبنان لشهادات الإيداع التي تكتتب بها المصارف، وشراء المصرف المركزي مباشرة لسندات الخزينة اللبنانية، أي طبع العملة. وأدى ذلك أيضاً إلى ارتفاع الدين الخارجي المتمثل بالودائع بالدولار الأميركي لدى المصارف. وبذلك دخل لبنان مرحلة من «التسيير الذاتي» من دون أي سياسة اقتصادية هادفة، معتمداً على الظروف الداخلية والخارجية للإبقاء على «التوازن الهش» في تطبيق لنظرية الدكتور بانجلوس (لفولتير) عن أننا نعيش في «أفضل العوالم» دائماً!
ولأننا لا نعيش في عالم كهذا، وبسبب أن الدول لا تستطيع أن تعتمد إلى ما لا نهاية على تدفق رؤوس الأموال من الخارج، بل يجب ألا تفعل ذلك بسبب الأذى الذي قد تلحقه بالاقتصاد وبالسياسات الاقتصادية، دخلنا اليوم في مرحلة جديدة استفاق فيها لبنان من حلم 2007 ـ 2010 واستفاقت فيها مطالب لمكونات أساسية من المجتمع هم العمال والموظفون الذين تناساهم النموذج الاقتصادي عبر تجميد أجورهم وتعريضهم لارتفاع أسعار السلع غير القابلة للتبادل (ولا سيما السكن) الناتجة من تدفق رؤوس الأموال والاحتكار. وبدلاً من أن يكون هذا باباً للنقاش في النموذج الاقتصادي اللبناني والحاجة إلى إصلاحات ليست فقط ضريبية لتصحيح «الخطأ الأساسي» وتبعات الخيارات التي اتبعت، ذهب الكثيرون إلى محاولة تصوير هذه المطالب وكأنها هي الأزمة بحد ذاتها.
إن العمال والموظفين اللبنانيين الذين أسهموا في الاستقرار النقدي عبر القبول بزيادات قليلة على أجورهم منذ عام 1996، وخصوصاً الأجور الوسطية، ليسوا هم المسؤولين عن بقاء الاقتصاد اللبناني على حد السكين، وقد يكونون مستعدين للقبول بالتضحية أكثر إن كانت تضحياتهم تؤدي إلى بناء اقتصاد جديد ومنتج، أي إن الفوائض الاقتصادية تذهب إلى تراكم رؤوس الأموال الحقيقية ورفع الإنتاجية وخلق الوظائف بدلاً من الإبقاء على مصالح اقتصادية ضيقة لمجموعة صغيرة تتحكم بمفاصل الاقتصاد اللبناني وتصرّ على سياسات اقتصادية تخطاها الزمن وبرهنت على فشلها في تحقيق النمو والتنمية وتحقيق مستويات معيشية أعلى ورفاه واستقرار اجتماعيين.
ما يجب أن يحصل اليوم هو إقرار سلسلة الرتب والرواتب، لا لأنها «حق» ولا «حسنة»، فالأجور ليست هي حسنة من أرباب العمل والدولة، ولا هي حق للعمال والموظفين، بل تخضع للآليات وللحاجات الاقتصادية وللصراع الطبقي. فاليوم نحن بحاجة إلى زيادة الطلب الداخلي في ظل تراجع الطلب الخارجي لإخراج الاقتصاد من الركود، وحسب مؤشر Bank MED وجمعية تجار بيروت، شهد لبنان تراجعاً في الحركة التجارية بلغ 9.8% في 2013، وهو ناتج جزئياً، كما قال التقرير، عن «ضعف القدرة الشرائية للمستهلكين اللبنانيين»، بالإضافة إلى قوله «إن المواطنين اللبنانيين يمارسون التقشف». ولا مخاطر تضخمية لهذه الزيادة، إذ إننا في ظل تزايد لفجوة الإنتاج، والاقتصاد يعاني سعةً زائدة، حسب التقرير الاقتصادي لبنك عودة في عام 2013. ولا مخاطر لهذه الزيادة أيضاً على تراكم رأس المال، لأن زيادة الاقتطاع الضريبي، إن طبق على المصارف وأمكنة الريع من فوائد وأرباح عقارية، ستأخذ من مداخيل لا تذهب إلى تحقيق مثل هذا التراكم، بل تكدّس ثروات غير منتجة. ولا خطر على الليرة، حتى ولو زاد العجز قليلاً نتيجة السلسلة، أي عبر عدم تمويلها بالكامل من الضرائب، إذ لا حاجة لذلك كما يصر أصحاب النظرة «المحاسباتية» للاقتصاد، بل يُمكن تمويل هذا العجز عبر شراء المصرف المركزي لسندات الخزينة بالليرة اللبنانية. فالتحالف الثلاثي لا يزال قائماً، وتشهد على ذلك السياسة التوسعية النقدية للمصرف المركزي في عام 2013 الذي ضخّ 1.46 مليار دولار لقروض السكن وغيرها و 800 مليون دولار لعام 2014، على الرغم من العجوزات المتتالية في ميزان المدفوعات منذ عام 2011، فلو كان هناك خوف من هذه العجوزات على المدى القصير، لما طبقت هذه السياسة. فلم الخوف الآن؟
الخوف مصطنع، ويجب وقف التهويل. وفي هذا الإطار، إذا كان لا بد من تجنب أي مصدر للخوف، يُمكن القبول بتقسيط السلسلة على 3 سنوات، ولكن مع شرط أساسي، هو الحفاظ على قيمتها الحقيقية اليوم، وذلك عبر ربطها بالتضخم اللاحق والحفاظ على حقوق المتقاعدين والمتوفين في تلك الفترة كاملة.
بدأنا في عام 1993 بالحاجة إلى منطق الرأسمال من أجل إعادة الإعمار وإقامة اقتصاد جديد يخرج من آثار الحرب، وانتهينا اليوم بأقتصاد ريعي وتبعي يفتقر إلى الاستقرار والنمو وخلق الوظائف ورفع الإنتاجية وتحسين مستوى المعيشة. هذا يوجب أن يكون المدخل الأساسي إلى «الإصلاح الاقتصادي»، أي استحداث سياسة اقتصادية جديدة بدلاً من الاستمرار في حرب طبقية شرسة ضد العمال والموظفين وضد الطبقة الوسطى، وبدلاً من بقاء اقتصادنا دائماً على حد السكين في ما بين اقتصاد دائم الركود يخضع لفورات اقتصادية مؤقتة غير منتجة وبين انهيار يطيح الاقتصاد والمجتمع برمتها.
* رئيس قسم الاقتصاد
في الجامعة اللبنانية - الأميركية