ظهر مفهوم المركز/ الأطراف كتعبير عن العلاقات البينية الدولية، والتي تكرست ضمن سياق الواقع التاريخي الذي صنعته ظاهرة الاستعمار، واستمرت ضمن نسق جديد يعبر عنه اصطلاحاً بـ«الامبريالية». قامت هذه العلاقة على أسس غير متكافئة بين المركز المسيطر بوصفه الطرف الأقوى اقتصادياً وحضارياً والمحكوم ببنية معرفية قوامها المركزية الأوروبية والتفوق الحضاري الغربي، وبين الأطراف كجهة تابعة وخاضعة لنفوذ المركز اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي تكرس مفهوم المركز/ الأطراف بوصفه التعبير الأمثل لمنظومة العلاقات الدولية في شكلها الاقتصادي، القائم على أساس هيمنة دول المركز على السوق العالمية، ومصادر المواد الأولية، معتمدة على احتكار التكنولوجيا والقدرة الصناعية، وما يترتب على ذلك من إفقاد دول الأطراف استقلالها السياسي ولكينونتها الثقافية. هذا المفهوم الذي يقع في صلب المضمون الامبريالي لنظام عالمي أحادي القطب، أعلن العقل الإمبراطوري الأميركي عن تؤسسه في لحظة تاريخية شكلت حوادثها الكبرى سياقاً مواتياً له – احتلال الكويت والحرب على العراق عام 1991 - وفي قلب الجغرافيا ــ السياسية للمشرق العربي ـ تماماً كما كانت هذه الجغرافيا السياسية نفسها مسرحاً لإعلان ميلاد نظام الثنائية القطبية في سياق تاريخي مختلف – العدوان الثلاثي على مصر 1956 - وإن كان للمشرق العربي هذا الموقع المهم، الذي يتيح له أن يكون ساحة لتغيرات جيوستراتيجية لها تداعيات عالمية بحجم أفول أنظمة إدارة للعلاقات الدولية وميلاد أخرى. فإن لسوريا كمحور لهذا المشرق وكقطب رافد لواقع ريادي فيه، في المجالات الثقافية والحضارية، كما السياسية، الموقع الأهم الذي جعل منها، وهي الدولة ذات الإمكانات المحدودة، تحتل صدارة المشهد الإقليمي ما يؤهلها لتشكيل حالة تاريخية يتعدى تأثيرها النموذجي مداها الحيوي المشرقي إلى العالم ككل.
لم يتعاطَ العقل الاستراتيجي للدولة السورية وبالخصوص في عهد الرئيس حافظ الأسد مع مجمل الحوادث الدولية المتعلقة بأفول نظام عالمي وبروز آخر، بمنطق التبعية الذي فرضته دول المركز الامبريالي على الأطراف. وإنما شكل حالة استقلالية خاصة دعمه الموقع التاريخي لسوريا كرائدة للنسق الاستقلالي المعادي للاستعمار ومشاريعه، الذي قسم كيانها الطبيعي إلى أربع دول وزرعت كياناً وظيفياً توسعياً في القلب منه، كانت هذه الحالة، على مر عقود تخللتها محطات تاريخية خطيرة، من هزيمة 1967 إلى حرب 1973 إلى خروج مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي باتفاقية كامب ديفيد إلى الاحتلال الأطلسي - الإسرائيلي للبنان 1982 إلى حرب الخليج في 1991 وقبلها الحرب العراقية على إيران، مثالاً للإدارة الجادة التي يعتمد أداؤها السياسي على عقل استراتيجي بارد يدرس التوازنات الدولية والإقليمية بدقة متناهية، ويعرف كيف يمزج بين العقلانية والعلمية من جهة، وبين الحزم والتشدد في ترسيخ الثوابت الوطنية من جهة أخرى، وفق آليات اتخاذ قرار قائمة على دراسة الظروف الجيوستراتيجية الإقليمية، والدولية دراسة علمية والتكيف معها.
بهذا المنطق نفسر انتقال الدولة الوطنية في سوريا من مرحلة المواجهة المباشرة مع العدو الإسرائيلي إلى مرحلة مواجهته من «خارج الأسوار» وصولاً إلى الدولة المقاومة أخيراً مع الرئيس بشار الأسد. وبهذا المنطق نفسه ندرس مدى صوابية القرارات الاستراتيجية للرئيس حافظ الأسد في مراحل حساسة وخطيرة أخرى قبيل التدخل في لبنان سنة 1976 والتحالف مع إيران.
لقد اعتمد النظام العالمي أحادي القطبية على المضمون الامبريالي لعلاقة المركز المهيمن بدول الأطراف - الممنوعة من أي استقلال للإرادة الاقتصادية عن منظومته النيولبرالية - والتي لا يرى فيها سوى سوق لسلعه ومصدر لموارد الطاقة وللمواد الأولية، أو ساحات لقواعده العسكرية، محافظاً من خلال الاختراق الثقافي النيولبرالي الذي يتم بأدواته الإعلامية والثقافية والمالية، على معادلة الهيمنة للمركز والتبعية للأطراف، ضمن استراتيجيته القائمة على بنية فكرية استعمارية موغلة في العنصرية، وترسيخ المركزية الغربية ونشر القيم الليبرالية الغربية وفق إطار امبريالي ثقافي في كل أرجاء المعمورة. يقوم هذا المضمون على قوة آلة الحرب العسكرية كأداة لتنفيذ كل المشاريع الواقعة ضمن استراتيجيته، وتحويل المؤسسات الدولية إلى آليات تنفيذية عقابية ضد أي من دول الأطراف التي تخرج عن السياق العام لمعادلة المركز/ الأطراف. كان آخر هذه المشاريع «مشروع الشرق الأوسط الكبير» الذي شكّل ذروة الطموح التوسعي الامبراطوري الأميركي، وفي أقسى تعبير للأحادية القطبية تجلى في احتلال دولة من دول الأطراف منهكة بحصار دام لأكثر من عقد من الزمن، وفي منطقة تمثل المورد الأساس للطاقة في العالم، من دون أي اعتبار لـ«الشرعية الدولية» أو لرفض دول صاعدة عظمى كالصين وروسيا، ولا حتى لدولة تقع ضمن نفس منظومة دول المركز كفرنسا. لم ترفض سوريا الأمر الواقع الجديد المتمثل في الاحتلال الأميركي للعراق فحسب، وإنما انخرطت في تحديه باستنزافه عسكرياً بمقاومة شرسة كشفته استراتيجياً مع مرور الزمن، إلى أن انتهت بإخراجه من العراق من دون أن يضمن الحد الأدنى من نتائج «إيجابية» لاحتلاله. وهي إقامة نظام موال له (السيد نصر الله وصف في أحد خطبه الدور السوري في دعم المقاومة العراقية بالحاسم)، ثم توجت تحديها بإلحاق الهزيمة بهذا المشروع نفسه عن طريقة إسقاط أهداف أداته الوظيفية الإسرائيلية في حرب لبنان 2006. ولنا أن نحلل موضوعياً القيمة الاستراتيجية للهزيمة الأميركية في العراق ولبنان باعتبارها سقوطاً مدوياً لعقيدة المحافظين الجدد العسكرية القائمة على الاعتماد على قوة الآلة الحربية الأميركية في إخضاع دول الأطراف، ومن خلالها العالم ككل. لقد تمكنت سوريا كدولة من دول الأطراف ذات الإمكانات المحدودة من خلال دورها في العراق ولبنان وفلسطين، من إظهار عجز إرادة القوة الإمبراطورية الأميركية عن تحقيق كل طموحاتها وتحطيم وهم قدرة المركز على ترسيخ معادلة الهيمنة، ما أسس لحالة دولية استطاعت أن «تتجرأ» تدريجياً على مواجهة الإرادة الأحادية للمركز، بلغت ذروتها مع بداية الحوادث في سوريا، والتي هي في جوهرها حرباً يخوضها المركز من داخل «أسوار» الدولة السورية بأدوات وظيفية تكفيرية، إذ خرجت روسيا في سياق هذه الحوادث، كقوة عظمى بدأت بالاستثمار في عناصر قوتها لتغيير جوهر النظام العالمي الأحادي القطبية، مدعومة من الصين كقوة اقتصادية عالمية وقوى صاعدة أخرى نمت وتطورت من خارج الإطار العام لدول المركز (دول البريكس). صمود سوريا في هذه الحرب ومواجهتها الحاسمة لهذه الحرب الوظيفية التكفيرية في الداخل وفي الإقليم مع شركائها في سوريا الطبيعية (حزب الله) والعراق أظهر نموذجاً فريداً في التحدي، لم تستطع دولة أخرى من دول الأطراف كأوكرانيا أن تعيد إنتاجه أمام هجمة مماثلة بأدوات وظيفية للمركز من طبيعة أخرى – القوى اليمينية العنصرية المتطرفة -.
ريادية سوريا في النسق الاستقلالي المعادي للاستعمار والمواجه لإرادته التوسعية يمثل حتماً نموذجاً لكل دول الأطراف في هذا العالم الطامحة للمحافظة على وحدة كياناتها من التشرذم على أساس ديني أو عرقي، ولإحداث مشاريع تنموية ونهضوية والبروز من خارج معادلة الهيمنة للمركز والتبعية للأطراف التي كرستها المشاريع الاستعمارية أحادية القطبية. صعود روسيا ومن ورائها الصين من خلال استثمار اللحظة التاريخية التي قوامها بداية تراجع المد الإمبراطوري الأميركي بفعل تحدي سوريا لهيمنة المركز في ذروة الأحادية القطبية – بالإضافة إلى أسباب أخرى اقل أهمية - وكشفه عسكرياً واستراتيجياً يعد مخاضاً لميلاد نظام دولي جديد متعدد الأقطاب قائم على أساس نسف معادلة الهيمنة والسيطرة لقوى المركز على حساب باقي دول العالم، واحترام القانون الدولي واستقلال الدول وسيادتها ووحدة كياناتها والحفاظ على الخصوصيات الثقافية والهوياتية للدول وحقها في التنمية والتقدم بعيداً عن هيمنة المنظومة الاقتصادية والقيمية النيوليبرالية.
* كاتب جزائري