يستمر نزوح المحترف السوري إلى بيروت، ويواصل الجمهور البيروتي (وأغلبه فنانون ومثقفون سوريون نازحون مقيمون في بيروت) بمتابعة تجارب سورية عديدة تنتمي إلى أجيال وتيارات مختلفة. وربما تكون غاليري «Art on 56 th» هي الأكثر اهتماماً بتقديم هذه التجارب التي لا تجد فرصة طبيعية للعرض في الغاليريات السورية المحلية التي توقفت تقريباً عن برمجة معارضها بسبب الأوضاع المتفجرة هناك.
آخر هذه التجارب معرض مشترك يضم منحوتات ولوحات لبشرى مصطفى (1984) ولوحات لسعود عبد الله (1976) منفذة بتقنية الرمل على الكانفاس. تتعزز فكرة المعرض المشترك أكثر باشتراك فنانَيْن من جيل أسبق في تقديم التجربتين، إذْ كتب يوسف عبدلكي شهادة عن أعمال سعود عبد الله، بينما قدم إدوار شهدا أعمال بشرى مصطفى. كأن الاضطراب الكبير الذي يصيب الحياة السورية يجد عناية ما تضمن تواصل الفن السوري حتى في نزوحه إلى الخارج.

بالعودة إلى المعرض نفسه، نجد تباعداً واضحاً في التجربتين، وإن كان تسرّب «الموضوع السوري الراهن» إليهما يوحّد جانباً مهماً من الانطباعات التي تبثها الأعمال المعروضة. في شغل سعود عبد الله، تُدهشنا براعته في استخدام الرمل لإنجاز لوحاتٍ نحتاج إلى تفحصها جيداً كي نتأكد أنها ليست مرسومة بالألوان العادية. الرمل قادمٌ ربما من مسقط رأس الفنان المولود في الحسكة على أطراف البادية السورية، ولكنه يطوّر هذه المادة الخام ويجد لها أداءً لافتاً في تجفيف التفجع العاطفي الذي يمكن أن تصنعه الألوان في رسم أشكاله البشرية التي غالباً ما تكون نساءً في وضعياتٍ تخدم وجودهن في حالة وحدة أو كتلة جسدية مكتفية بنفسها.

هناك سعي واضح إلى اختزال هذا الحضور الأنثوي، والتقليل من ثقله التشخيصي أو الواقعي لصالح مساعٍ تجريدية تظل خافتة وطفيفة، ولكنها تتدخل بقوة في صياغة موضوع اللوحة. هكذا، تُختصر امرأة كاملة على كرسي بخطوط منحنية. المنحنيات نفسها تصوغ امرأة مستلقية وتدير لنا ظهرها في إحدى اللوحات، وامرأة أخرى تتكاثر ظلالها كصفّ من النساء الجالسات في حداد، وثالثة تحمل صرة في لوحة بعنوان «نزوح». بينما نرى شخصاً معطوباً في لوحة «أعرج»، وآخر معتقلاً في لوحة «سجين» كمثال آخر على الحالة السورية. التشخيص ذاهب باتجاه التجريد والاقتضاب والمحو، إلا أن ذلك يعزز علاقة اللوحة بمشاهديها، ويصنع علاقة أفضل للفنان نفسه مع أعماله التي يريد أن تستجيب لممارساته التجريبية، وأن تكون فيها شهادة ما على الواقع الذي انتهكت فيه حياة الناس في بلده.
في منحوتات ولوحات بشرى مصطفى، نذهب إلى تقنيات أخرى، حيث البرونز يجعل المنحوتات أقرب إلى أسلافٍ استُخرجوا في تنقيبات أثرية، فتبدو الفنانة نفسها حفيدة لفناني المنطقة وتراثها النحتي. تتعمّد بشرى مصطفى التي سبق لها أن حصدت جائزتين في النحت، أن تنجز شخوص منحوتاتها بأحجام صغيرة، كي يسهل عليها ربما أن تلملم حركة التعبيرات وملمس السطح غي الصقيل في مساحات ضيقة. رغم ذلك، هناك تطاول مرئي في القامات القصيرة لأشخاص وحيدين أو مع شريك آخر في حالة «كوبل»، بينما تلوح انطباعات أخرى مختلفة من منحوتات رأسية، وخصوصاً في منحوتة «الجوكر» التي ستتكرر في عدة أعمال، وكذلك في ثلاثية أنثوية بعنوان «أنا أمرأة لا أكثر ولا أقل»، إلى جوار منحوتات أخرى تُركت بدون عنوان.

التعبيرات الأليمة التي لا تغيب في أغلب المنحوتات، نراها بطبعة مماثلة في اللوحات المنفذة بالحبر الصيني والفحم. إنها لوحات تتسيدها نساء (ورجال أحياناً) بقامات صغيرة مماثلة للمنحوتات، بينما تلك «التروما» السيكولوجية القادمة من التراجيديا السورية تترك قسمات الوجاه نهباً لتلطيخات سوداء ورمادية تنتهك الوجوه والأجساد المرسومة أصلاً بقوة الوجع والخسارة وفوات الأوان. هناك منحوتات تشذُ قليلاً عن المناخ العام لأعمال مصطفى كما في منحوتة لشاب على دراجة هوائية، وأخرى لشاب تحتضنه فتاة من الخلف على دراجة مشابهة. كأن ذلك يذكرنا بالحياة السورية العادية قبل انفجارها. إصغاء الفنانة إلى ما يجري لا يغيّب عنايتها الفائقة بتطوير تجربتها التي تبدو وكأنها تحفر في الموضع الذي بدأت فيه. ما زالت التشويهات التي تتعرض لها سطوح المنحوتات تمنحها خشونة وعتقاً، ولكن ذلك لا يشغل انتباه المتلقي عن الانطباعات الحسية التي تنبعث من المنحوتات، كما من أشكالها المرسومة في اللوحات.

*يستمر المعرض حتى 29 أيار الحالي. «غاليريArt on 56 th»، الجميزة. للاستعلام: 01570331