القاهرة | كان للرقابة، بنوعيها الرسمي والأصولي، أشد المعارك مع نجيب محفوظ. مع ذلك، فإنّ محفوظ نفسه تولّى رئاسة جهاز الرقابة على المصنفات الفنية لخمس سنوات بدءاً من 1959. في تلك المفارقة وعلاقة الحب والكره بين «الجهاز» والفن المصري، متمثلاً في أبرز رموزه عميد الرواية والسينما معاً، يكمن إشكال الرقابة ولغزها وعقدتها. استحكمت الأخيرة مجدداً مع إصدار وزير الثقافة، محمد صابر عرب، قراراً بتشكيل لجنة عرفت باسم «الرقابة المجتمعية»، وأثارت الفزع والسخط بين بعضهم، ورضى وحماسة آخرين.
غير أنّ اللجنة الجديدة لم ترتبط هذه المرّة بأزمات «محفوظية»، (فقد راح ذلك الزمن)، بل بأحد الأفلام «السبكيّة»: «حلاوة روح» لهيفا وهبي. الاعتراض على الفيلم هذه المرّة لم يأت من الأصوليين ـــ المشغولين الآن ـــ بل من «المجلس القومي للأمومة والطفولة». في قرار غير مسبوق، أوقف رئيس الوزراء الفيلم بعدما أجيز بالفعل من الرقابة، وتقدّم المنتج بتظلّم، والتماس تم رفضه، ليصبح إيقاف الشريط نهائياً، في واقعة لا سابق لها. وبالتوازي مع أزمة «حلاوة روح» الذي تنافس أغنيته للفنان حكيم أغنية «بشرة خير» لحسين الجسمي في مقاهي القاهرة وشوارعها، أصدر وزير الثقافة قراره المسمّى رسمياً «إعادة هيكلة الرقابة»، والملحق به قرار إنشاء اللجنة التي أثارت القلق، ثم الغضب، حين أعلنت أنّها بدأت أعمالها بمشاهدة فيلم «بنت من دار السلام».
كان «إلغاء الرقابة» مطلباً قديماً يتجدد مع كل حراك سياسي، ورُفع بقوّة مع أحلام «ثورة يناير»، قبل أن يتراجع ويتواضع مع كل مطلب آخر. لم يكن في الحسبان أن تزيد الرقابة لجنة أخرى، تضاف إليها كلمة «المجتمعية» المخيفة التي تتصل بقاموس «مجتمعي» كامل يرتبط بـ«القيم» والعادات الاجتماعية. كما توحي بالاستعانة بأشخاص من خارج الجهاز الرسمي، ما يزيد عدد المتدخلين في تقييم العمل الإبداعي والرقابة عليه.
بالفعل، سرعان ما أُعلنت الأسماء التي هدّأت من القلق قليلاً، منها المخرج شريف مندور، والناقدة خيرية البشلاوي، والناقد رامي عبد الرازق. أسماء معروفة بدفاعها عن حرية الإبداع، فضلاً عن ممثلين لـ«غرفة صناعة السينما»، وأساتذة سينما وعلم نفس واجتماع. في السياق، كتب المخرج أمير رمسيس موضحاً أنّ دور اللجنة «استشاري وغير ملزم»، وليس من سلطتها أن تقرّر منع أو إيقاف عمل فني، كما أنّ جزءاً من قرار وزير الثقافة يعني تحويل «الرقابة» إلى هيئة معنية بالملكية الفكرية، و«التصنيف العمري» للأفلام، وهو مطلب سينمائي قديم. وفي الإجمال، فإنّ دور اللجنة ـــ حسب رمسيس ـــ هو «متابعة عمل الرقابة والرقيب ومشاكله كجزء من إعادة التأهيل». لكن من كلام رمسيس، تبدو عبارة «متابعة عمل الرقابة والرقيب»، كأنّها رقابة على الرقابة نفسها، أي معالجة «لفشل» الرقابة المتمثّل في السماح لـ«حلاوة روح» بالعرض بداية، قبل أن يمنعه رئيس الوزراء بقرار مباشر. ليس للجنة سلطة المنع بل حق «التوصيات». لكن «التوصيات» في جهاز رقابة لن تكون ـــ بطبيعة الحال ـــ إلا «رقابية»، وستبدو في أفضل الأحوال، محاولة لتزيين السقف، لا لرفعه، وبالطبع ليس كسره. ومن البديهي أنّ إضافة إجراء بيروقراطي جديد لا يعني سوى تعطيل أكثر، وبالمثل فإنّ لجنة رقابية جديدة لا يمكن أن تعني حرية أكبر.