نهايات كثيرة شهدها العالم منذ عام 1989، بعضها حلو وآخر مرّ وحزين. ولكن أياً منها لا يرقى، من حيث الأهمية، إلى التصوّر الذي هزّ عقول وأفكار الكثيرين خلال ذلك العام والمرحلة اللاحقة. إنها فكرة نهاية التاريخ والوصول إلى قمّة ما يُسمّى «الديموقراطية الليبرالية»، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
صاحب هذه النظرية كان، ولا يزال إنما مع تنقيحات يفرضها الواقع، المفكر الأميركي والأستاذ في جامعة ستانفورد فرانسيس فوكوياما. وقد عاد إلى إرثه الشهير، وهو عبارة عن أطروحة نشرت كمقال في مجلة «اهتمامات وطنية»، خلال محاضرة ألقاها أخيراً في معهد «كايتو للدراسات الليبرالية» في واشنطن.
يُخصّص فوكوياما جزءاً كبيراً من مطالعته لشرح تأثره بالفيلسوف الفرنسي ألكسندر كوجيف (راجع الكادر المرفق). ولكن رغم الحسم الذي بدا نهائياً وفرضه الأخير على المجتمع الفلسفي، بأن نهاية التاريخ كانت مع الثورة الفرنسية، نشأ نقاش حاد في معرض القرن العشرين حول النهاية الفعلية للتاريخ: هل هي الديموقراطية الليبرالية أم النسخة الاشتراكية من هذا النظام؟ هل النهاية هي الوصول إلى كيان مثل الاتحاد الأوروبي الذي غذاه وأنبت فكرته كوجيف؟

نزاعات كثيرة
في التاريخ كان
سببها الأرض
أو المرأة

طُبخت هذه التساؤلات على نار الحرب الباردة. فعلياً، آمن معظم المفكرين التقدميين في العالم، خلال قرن ونصف قبل عام 1989، بأن سهم التقدّم الاجتماعي – «الذي قد نختلف حول اتجاهه ولكن جميعنا نؤمن به» يُعلق فوكوياما – يؤدي إلى الشيوعية أو أحد نسخها. «وهي أساساً فكرة كارل ماركس الذي استعار قليلاً من هيغل وآمن بوجود نهاية للتاريخ، ولكنه اعتبرها يوتوبيا شيوعية».
على نقيض هذه الرؤية، رأى فوكوياما المسار الحداثوي للتاريخ منتهياً عند الديموقراطية البورجوازية واقتصاد السوق وليس الشيوعية. برأيه «إنها نهاية التاريخ الملائمة». في التطبيق، كان واضحاً أن اللعبة هي لمصلحة البورجوازية طبعاً. فعند تخوم التسعينيات برزت مسوغات كثيرة لانهيار الاتحاد السوفياتي وبالتالي لمقالة فوكوياما. أبرز المؤشرات مقال لميخايل غورباتشيف نفسه عام 1988، أشار فيه إلى أنّ «أساس الشيوعية هو المنافسة»(!).
«حين قرأت المقال اتصلت بأحد الزملاء وقلت له إننا صرنا في نهاية التاريخ» يشرح فوكوياما، وهو يعني أن القضية انتهت وانتصرت الديموقراطية الغربية ما دام المعسكر الشيوعي يعتبر أن المنافسة – وليس الصالح العام – هو أساسه.
انطلاقاً من هذه الفكرة جهزت الأطروحة، ومع التحضير لنشرها تسارعت الأحداث لفوكوياما. فقد انتخبت أميركا جورج بوش الأب رئيساً، ومعه أضحى دنيس روس في إدارة التخطيط لوزارة جايمس بايكر. «ولكونه صديقاً طلب مني الانضمام إلى فريقه».
ولكن مع النجاح الساحق للمطالعة الفلسفية وعنوانها الجذاب، ترك الفيلسوف الحديث السلك العام وخطّ كتاب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير». الكتاب هو تطوير لفكرته الأساسية، وفيه يستند أيضاً إلى نظرة هيغل لمسار التاريخ بوصفه دفقاً للأحداث يحركه النضال للحصول على تقدير (Recognition).
«صحيح أن نزاعات كثيرة في التاريخ البشري كان سببها الأرض أو المرأة، إلا أن معظمها ولدته الرغبة بصون الكرامة» يشرح الأستاذ الأميركي فكرته. «البشر مستعدون للموت من أجل علم أو قطعة قماش لأنهم يكترثون للكرامة».

الأحزاب الإسلامية
الأكثر تنظيماً، إلا أنها لا تمثل بالضرورة آمال شعوب المنطقة

وحتى نيتشه، بعد قراءة هيغل، تساءل: ماذا يحدث بعد نهاية التاريخ؟ فعلياً، عندما يحصل الجميع على ذلك الاعتراف بمستويات متساوية ولا يعود هناك ما يتم التطلع إليه وما يشكل عملياً التاريخ الذي نعيشه. عندما يصبح الجميع في مجتمع متساوٍ وثابت «يُصبح لدينا الرجل الأخير الذي لن يكون لديه نضالات ولا يطلب الاعتراف بوجوده».
فلنتقدم إذاً 25 عاماً إلى الأمام، كيف تصمد نظرية «نهاية التاريخ» في زمننا؟
«العالم اليوم مختلف لا شك ولكن المشاكل تبقى كثيرة» يُعلق فوكوياما على الوضع الراهن. صحيح أن عدد البلدان التي شهد نظامها انتخابات شعبية كان دون الخمسين في عام 1970 وارتفع الرقم إلى 120 مع حلول عام 2000، «إلا أن الديموقراطيات عبر الزمن هي كمؤشر البورصة، ترتفع وتهوي».
ولكن رغم كل ذلك يسأل المفكر السياسي الأميركي جمهوره: «من يريد فعلاً أن يعيش في كنف بلد مثل السعودية أو إيران؟ لا أحد. حتى البلدان الأخرى في الشرق الأوسط» لا تحبذ ذلك.
برأيه، إنّ الأحزاب الإسلامية قد تكون الأكثر تنظيماً في هذه المنطقة، إلا أنها لا تمثل بالضرورة آمال وتطلعات شعوب المنطقة، وطروحاتها أساساً لا تتواءم مع مقتضيات الديموقراطية الليبرالية.
في كتابه الذي يصدر في الخريف المقبل تحت عنوان: «أصل الأنظمة السياسية»، يعترف فرانسيس فوكوياما أن الوضع حالياً – أي بعد ربع قرن على نهاية التاريخ – ليس عظيماً. يقول إنّ «أداء الديموقراطيات كان مخيباً للآمال، لمجموعة من الأسباب، أحدها خاص بفشل آليات الحكم، أي فشل الحكومات المنتخبة في تحقيق ما تتطله إليه شعوبها».
ما يجب أن تحققه الحكومات هو الخدمات العامة، الأمن، التعليم، الصحة العام، أي تلك العوامل التي تجعل الفرصة الفردية ممكنة. فشلت الديموقراطية الموعودة في أوكرانيا عام 2004، كذلك من المثير تقويم الهند على أنها ديموقراطية وفي الوقت نفسه تعاني من نقص الخدمات العامة ولا تؤمنها كما الحال في الصين. «لا تنجح الصين (بحسب هذا المؤشر) لأنها ديكتاتورية بل لأنها تتمتع بفاعلية إدارية». أزمة الديموقراطية تبلغ أوجها في الولايات المتّحدة نفسها حيث هناك مشكلة حكم وإدارة. يُشير فوكوياما في هذا الإطار إلى أنّ «آليات الحكم البسيطة مثل إقرار الموازنة تبدو أبعد من قدرة الكونغرس على الإمرار» وحتى إذا أقرت «تظهر صعوبتها على مستوى التنفيذ لاحقاً».
يصف الفيلسوف السياسي هذا الوضع بأنه «انحلال وانحطاط المؤسسات الذي يترافق مع التطورات السياسية». يختصر ما وصلت إليه الديموقراطية الأميركية التي بشرت بيوتوبيا الليبرالية خلال حربها الباردة مع المعسكر الشرقي، بعبارة واحدة: ...فلنقل إن هناك مصعداً يرفعك إلى نهاية التاريخ وآخر يُنزلك عن هذه القمة.



ابحث عن الثورة الفرنسية

لفهم أطروحة فرانسيس فوكوياما (الصورة) لا بد من فهم إطارها الأكاديمي والتاريخي. خلال دراسته في جامعة «كورنيل» تأثر فوكوياما بأستاذه آلان بلوم الذي كان بدوره تلميذاً للمنظر السياسي الشهير ليو شتراوس. من هذا التأثر نشأ حبه للفلسفة اليونانية وشغفه بجمهورية أفلاطون. وبهذه الخلفية أيضاً هوسُهُ بألكسندر كوجيف، الفيلسوف الفرنسي اللامع الذي درّس عمالقة فرنسيين أمثال جان بول سارتر. بيد أن ما أسره تحديداً كان معالجة كوجيف لفكرة نهاية التاريخ طبقاً لهيغل. إذ افترض أن عصارة أفكار الفيلسوف الألماني، هي أنّ التاريخ انتهى عام 1806 حين سحق نابليون الجيش البروسي في معركة يينا. خلال اجتياح «الإمبراطور» الفرنسي للمدينة كان هيغل يعلّم في جامعتها ولعله شهد الدخول المعظّم على الخيول والاختيال في الشوارع! شكّل هذا الوضع نشوة الثورة الفرنسية وشعاري الحرية والعدالة؛ صحيح أن أحداثاً كثيرة حصلت بعد المعركة الشهيرة، غير أنها كانت فقط عبارة عن تعبئة فراغات بعدما حققت الثورة الفرنسية أهدافها.