قد تبدو مسألة طرح فكرة الاجتهاد أو إعادة طرحها في هذا التوقيت ملائمة ومتوافقة مع الجمود الكارثي في النص الديني اليوم. ولا يمكن بأي حال فصل هذا الجمود عن ازدهار وتنامي موجات التكفير الديني وجماعات الفتاوى الانتحارية التي أتت كنتيجة منهجية لصعود التيارات الأصولية في العالم الإسلامي. بحكم حالة التكّلس التي صارت عليها ذهنية التفكير الأصولية المسيطرة على مختلف المذاهب والطوائف الدينية الإسلامية، كان لا بد من محاولة إعادة اعتبار لماكينة الاجتهاد الغائبة في بنية النص الديني، مع اتخاذ موقع وسطي بين مختلف تلك الاتجاهات.
لعل معمر عطوي كان واضحاً في اتخاذه ذلك الخيار الوسطي وهو يسعى لإزاحة الحجارة بين جمهور المسلمين وفكرة الاجتهاد التي صارت «الفريضة الغائبة عن فضاء النص الديني الاسلامي». وهي الفكرة الرئيسة التي سيذهب إلى تفكيكها في كتابه «شريعة المفاسد ـــ الاجتهاد الغائب عن فضاء النص الديني» (دار النهضة العربية ــ بيروت).
بداية، قد يكون علينا التنبه إلى نقطتين، أولهما: التصريح الذي يفتتح عطوي فيه بحثه، مشيراً إلى إنه لا يعمل في الفقه أو في أصول الدين وعلم الحديث. علماً أنه في الوقت نفسه، يعتقد أن النص الديني غني «بالكنوز التي تفيد الأمة وتجلب لها المصلحة». وبالتالي، هذا ما يعطي إمكانية البحث فيه من دون الوقوع في مأزق الاحتكار الذي وُضع هذا النص الديني في محبسه، ما جعله جامداً لا قدرة له على التحرك باتجاه أيّ وجهة نظر قد تخالفه. أما النقطة الثاني فهي اعتراف الكاتب بأنّه كونه «إسلامياً سابقاً خبِر تجربة الإسلام السياسي بالمعنى التنظيمي الحركي، والالتزام الديني بالمعنى التعبّدي الطقوسي»، هو ما دفعه إلى الدخول في رحلة البحث الهادفة إلى فتح منافذ ضوء ولو صغيرة لوضع فاصل بين حالات «التفكير» و«التكفير»، إلى جانب إتاحة الفرصة للعقل لفحص النص الديني بعين حاضرة تعيش لحظتها وزمنها الآن.
لن يكون فائضاً هنا إعادة التذكير بالأهمية التي يحتلها «النص الديني» في الوعي الجمعي لدى عامة المسلمين واعتباره المحرك الأول في توجيه مساراتهم وحصرهم في معتقدات صلبة ومتكلسة. وفي خضمّ حالة الحصار التي فُرضت على بنية النص الديني، ووضعه في معتقل ماضيه وجعله كياناً طيّعاً بين أيديّ الجماعات الأصولية وأسوارها العالية، لم تتوقف النتائج عند حالات إنتاج جماعات التكفير ومواسم التناحر المذهبية التي صارت ممسكة بالواقع الاجتماعي في أكثر من بلد عربي. صار ذلك النص خاضعاً لسيطرة إملاءات سلطات سياسية بحتة. يتضح هذا الأمر حالما ننظر إلى عملية التوظيف التي تمارس سلطوياً، من خلال استثمار الفتوى كوسيلة لإبقاء الحاكم محتفظاً بكرسيه ومقاليد حكمه وإشغال العامّة وحصرهم في مناطق بعيدة من مصالح ملكية الحاكم. تظهر حالة التجميد التي طالت مبدأ الجهاد ضد العدو الظالم من خلال منع الجهاد لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة مثلاً. وهي حالة تجميد أتت محمولة على فتوى بعض المؤسسات الدينية التي حرّمت هذا الجهاد، مستندة إلى أنه لا يصبّ في مصلحة الأمّة، لكنها في الواقع ما هي إلا فتوى سعت إلى عدم تعريض كرسي الحاكم لأي خطر قد يتهدده.
وبطبيعة الحال، لم يكن عبثياً ذلك الفعل العمدي الذي مورس من أجل تغييب نعمة الاجتهاد وما تفعله من إظهار لمدلولات النص الديني «وتبيان مقولاته التي تصب في مصلحة الإنسانية، لا في ترسيخ فكرة الدوغمائية العقائدية البالية». من هنا قد تتضح العمليات القمعية التي مورست على فكرة التأويل كمنهج لفهم وإعادة تفسير النص الديني باعتباره «حمّال أوجه» بعيداً من سياقه الحرفي التام. وبالتالي يمكن وضعه في مساحة تمكِّن العقل من فعل تحليله الخاص في بنية ذلك النص الديني واخضاعه ليصير محكوماً بزمن التنزيل والعلاقة التي تربطه بين ما سبق من نصوص، وما جاء بعده. هي مسألة يرى الباحث أنها إجراء يعطي للعقل إمكان جعل ذلك النص حاضراً في سياق مفتوح على اقتراحات تعمل على «توظيف النص لمصلحة البشر بدلاً من بقائه ثابتاً جامداً غير فاعل في حركة الحياة».
من خلال إلقاء نظرة على خريطة الفكر الإسلامي، تبدو «مدرسة الاعتزال» مثالاً يشير إلى فرقة كانت ذات سابقة في استخدام العقل في التاريخ الإسلامي. أتى هذا من خلال تبنيّها لمسألة أهمية تفعيل العقل في فك غموض النص الديني والسعي إلى تأويله عبر دراسة التطور التاريخي والتحولات الاجتماعية. هذه التحوّلات التي ينبغي وضعها في الاعتبار حال تناول ذلك النص الديني وجعله ممتلكاً لأسباب تمنحه ميزة الحياة.
تبقى الإشارة هنا إلى أنّ الكاتب قدّم في الربع الأخير من بحثه نصوصاً كان قد نشرها بشكل منفصل في فترات متباعدة. لكنه رأى إمكانية جمعها في إصداره هذا رغم أنها أفكار تصلح لإصدارات منفصلة بذاتها، مع العمل عليها مثال «الأساطير المؤسسة للمذهب» و«بدعة الوهابية» التي وجدت في الفتوى وسيلة لتأويل النص الديني وتحويله لأداة في خدمة الحاكم حتى لو كان فاجراً.