منذ سنة، عقد المؤتمر الأول «لإنقاذ لبنان وإعادة تأسيس الدولة». أصدرت هيئة المتابعة التي نتجت منه، في هذه المناسبة، بياناً يذكّر بصحة المعاينة التي وضعها المؤتمر في حينه، بالنظر إلى ما حصل خلال السنة المنصرمة، وينبّه إلى خطورة التطورات الراهنة.
هذا البيان يعيد تثبيت المعاينة، وكذلك تشخيص خصائص المرحلة وتحديد سبل التعامل معها، لا لادعاء قدرة على التنبؤ، ولا لأن خطة العمل نجحت في التطبيق، وفق ما كان مأمولاً، بل لأن أية مناقشة جدية للتشخيص ولخطة العمل لم تحصل، ولا أي صيغة بديلة من النظام القائم مقنعة طرحت، ولأن الخصم مربك، ولأن البدائل التي يبتدعها شنيعة، والقوة تستمد من ضعف الخصم؛ ولأننا، إذا كنا ممانعين ومقاومين وتغييريين، فهذا يعني أن الخلل ذاتي، ويكمن في التشتت والتردد والاستكانة للهزيمة، مهما تكن منطلقاتنا الفكرية وتجاربنا السياسية، ولأن المكاشفة واجبة، أقله كي لا تضيع المسؤوليات ولا نتحول إلى متفرجين ومعلّقين.

المشهد اليوم

يبدأ المشهد اليوم من العراق: حيث تتظهر مفاعيل الخلطة الجهنمية بين العصبية والمال والدين، ويتوسع إلى مجمل الساحة العربية ثانياً، حيث الشعوب ترضح لخيار جهنمي أيضاً بين عسكر يقمع، وعصابات تستبيح، ونصل أخيراً إلى لبنان ...
قد يظن البعض أن التطورات المأسوية التي تجتاح المنطقة لا تترك مجالاً لمسائلنا الداخلية. وأن أقصى مبتغانا النأي بالنفس، أو بالأحرى نأي دولتنا الافتراضية بنفسها عن المخاطر التي لم تعد تحيط بنا، بل اخترقت ثنايا مجتمعنا. رأيي عكس ذلك تماماً. نحن أقدر من غيرنا، وبالتالي علينا مسؤولية أكبر من غيرنا، على صياغة مشروع مجتمعي يسهم في إنقاذ مجتمعات المنطقة، وليس المجتمع اللبناني وحسب، من كوابيس الخلطات والخيارات الجهنمية التي استحكمت بها.
في لبنان، بات انكشاف النظام السلطوي التحاصصي الذي يقدمه البعض وصفة للمنطقة بأسرها، كاملاً:
في الأمن: كيف توقفت عمليات القتل والقتال فجأة، بعدما استفحلت هنا وهناك لسنتين كاملتين؟ هل لأننا شكلنا أمس قوى أمنية وجيشاً فوضعنا خططاً أمنية ناجعة، فاستسلم للقضاء عدد من مثيري الشغب، بينما اختفى آخرون ونسيناهم؟ أم لأن الذين كانوا يتولون تدبير عمليات القتل والقتال، ويذلّون رجال الأمن والجيش والقضاء قبل أي أحد آخر، توقفوا عن فعلتهم عندما جلسوا على طاولة مجلس الوزراء، أم لأن أسيادهم الذين كانوا يتولون تدبير عمليات القتل والقتال، أقلعوا عن فعلتهم بعدما أجلسوهم عليها؟ وماذا عن الضحايا؟
تجاه الخارج: يصرح الساسة اللبنانيون علناً بأنهم ينتظرون، لانتخاب رئيس للجمهورية، التوافق الخارجي. أليس هذا إقراراً يتخطى القبول بالعجز ليحاكي الخيانة الوطنية؟
ضمن المؤسسات، من المجلس النيابي إلى الحكومة: يتركز النقاش بحجج دستورية وعرفية متخبطة، حول ابتداع صيغ تسمح بتنظيم حقوق النقض المتبادلة لزعامات الطوائف. ويدور النقاش ذاته بين المؤسسات، المجلس والحكومة والرئاسة، بعدما تخيل هؤلاء الزعماء أن كلاً منهم يملك مؤسسة من هذه المؤسسات، استقطاعاً، ويستقوي بحقوق مطلقة مزعومة، وكأنها من فعل إلهي. تعميم حقوق النقض المتقابلة وتنظيم ممارستها ليس حالة عرضية، بل هو صياغة لنظام سياسي جديد، لا علاقة له بنص الدستور. وهذا النظام لا يسمح باتخاذ أي قرار، لأن كل قرار لا بد من أن يزعج طرفاً من الأطراف، وإن بشكل نسبي. أي مسألة تستدعي بالتالي إما وصاية خارجية ينصاع لها الجميع، وإما تشكيلة تضم منافع للجميع وجوائز ترضية، أي تعميماً للمحاصصة والصفقات، فلا يعترض أحد، ويصبح التوافق غطاءً لتدمير أي حق يضمنه قانون أو دستور، ولا عجب بالتالي أن تنتفي إمكانية التعايش مع أي قيد قد ينقلب على واضعيه، وأبرزها وجود موازنة وحسابات. ونحن نشهد بالفعل خلال الشهرين الأخيرين، تكاثراً مريباً للصفقات، سواء تلك التي أنجزت أو التي تلك يجري التحضير لها على قدم وساق، دون أي خجل من الانقلاب في المواقف التي طالما صورت على أنها مبدئية.
نعم، النظام، أو شبه النظام الموروث من الطائف مات ودفن، ونحن نعبر مرحلة انتقالية، وقد بدأت تظهر معالم نظام جديد وقبيح.
لكن ساحات مواجهة لا تزالت مفتوحة. خلال السنة المنصرمة، خضنا مواجهات في ساحات متعددة، لكن المواجهات لم تأت بالنتائج المأمولة لأن خوضها كان إفرادياً، والأطراف والشخصيات التي ساهمت في المؤتمر التأسيسي لم تشارك بالقدر الأدنى المفروض، وكثر المؤيدون والمناصرون، وحتى المزايدون، بينما بقي المواجهون قلة قليلة:
في مجال الحريات الصحافية، حصلت اعتداءات على صحافيين، وإمعان في امتهان أصول مهنتهم، وارتهان متماد لابتزاز سلطات المال، وهضم لحقوق الإعلاميين الاجتماعية، لكن الهيئات النقابية المعوّل عليها بقيت خارج الصورة.
في الجامعات، حصلت بعض التحركات، لكنها لم تتخطّ أطر الاعتراض على رفع الأقساط هنا وهناك، وبقيت التحركات محكومة بالعصبيات الفئوية، حتى بين مكونات مشاركة في المؤتمر، ولم تفلح الدعوات لاختراق حالات الفصل العنصري والطبقي بين الجامعات والإقطاعات الطائفية في الجامعة اللبنانية، عبر العمل الطلابي، لطرح المسائل الكبرى المتعلقة بالثقافة الوطنية، وبالكفاءة العلمية، وبفرص العمل.
وفي مجال الحريات النقابية، حصلت مواجهات بارزة. منها معركة عمال متعهدي كهرباء لبنان الذين تلكأ أصحاب الشركات (المدعومون سياسياً)، التي عملوا فيها لعشر سنوات أو لعشرين سنة والتي أعارتهم إلى المؤسسة، عن تسجيلهم في الضمان الاجتماعي. ومنها بشكل خاص معركة عمال شركة سبينيس التي يديرها البريطاني مايكل رايت، وهو الذي لم يحز إجازة عمل لسنوات، وراح لما احتج العمال على حرمانهم من تصحيح الأجور القانوني ومن التصريح عنهم للضمان الاجتماعي وأسسوا نقابة للدفاع عن حقوقهم، يرهبهم ويخيّرهم بين حريتهم المكفولة في الدستور والمعاهدات الدولية ولقمة عيشهم، فيرغمهم على الانسحاب من نقابتهم، وإن لم ينصاعوا يصرفهم من العمل، ووزارة العمل تتفرج، بينما ضجت المحافل العمالية الدولية بحالتهم، ولم يحرك أطراف المؤتمر قدراتهم لفرض استمرار حيوية النقابة من ضمن المؤسسة كي لا تقتصر على بضعة أبطال من العمال المصروفين.
وفي مجال القضاء، وعلى الرغم من نشاط مركز ومن بروز بضع حالات مشرقة بين القضاة، لم تتشكل حالة عامة تعيد القضاء إلى موقعه، نصيراً للحق. وكان لمحكمة المطبوعات بضعة أحكام حوّلتها، في الواقع، من نصير للحريات، إلى أداة لقمعها: قاضية أدى تحقيق صحافي إلى إدانتها من قبل مجلس القضاء الأعلى ربحت دعوى قدح وذم «بكرامتها» ضد الصحافي الذي كتب التحقيق؛ ووزير فند تقرير لديوان المحاسبة مخالفاته المالية ربح دعوى قدح وذم «بكرامته» ضد الصحافية التي أوردت مقتطفات من تقرير ديوان المحاسبة؛ والبريطاني مايكل رايت ربح دعوى قدح وذم «بكرامته» ضد من شهّر بأفعاله ووصف عمله الترهيبي بما هو واقعياً. في كل هذه الحالات، استأجر المرتكبون محامين يدافعون عن «كراماتهم»، وهؤلاء يقفون أمام الكاميرات ليتكلموا على مآثرهم في الدفاع عن الحريات.
ضمن هذا المشهد المحزن، استثناء لافت، هو الذي دفعني الى مصارحة اللبنانيين اليوم من خلال هذا المؤتمر الصحافي: تحرك هيئة التنسيق النقابية.

موقعنا من هيئة التنسيق النقابية

هيئة التنسيق النقابية حركة نقابية فعلية تشكلت خلال العقدين الماضيين، في مسار معاكس تماماً لمسار تدمير الحركة النقابية التاريخية الذي أوصل الاتحاد العمالي العام إلى الحالة المخجلة التي بات عليها، مستحقاً استبدال اسمه باتحاد العمالة العام. ولعل تحسس وجهائه لخزيهم هو الذي دفع ميشال سليمان ونجيب ميقاتي وسليم جريصاتي إلى منح غسان غصن وسام العمل الذهبي في مشهد مضحك مبك.
حركة هيئة التنسيق النقابية ولّدت، من رحم نضالها، مجموعة قيادات وكوادر هم من صلب تحركنا. وقد حققوا إنجازاً تاريخياً، فبنوا حركة نقابية ديموقراطية ومستقلة، فتخطّوا العصبيات الطائفية والمناورات، وتغلبوا على اليأس في مواجهة فاق عمرها ثلاثين شهراً، وشملت إضرابات لم يشهد لبنان لها مثيلاً، وتظاهرات واعتصامات، وانتزعوا حق حرية العمل النقابي في الدولة، وفرضوا على مجلس الوزراء ومجلس النواب التفاوض مع الهيئة وعقد الاتفاقات معها وطلب تقديم المذكرات إليها.
قياديو هيئة التنسيق النقابية، ولا سيما حنا غريب ومحمود حيدر، بعدما استحصل أولهما من هيئات رابطة التعليم الثانوي على توصية بتحويلها إلى نقابة، وبعدما حصل ثانيهما على موافقة الجمعية العامة لرابطتها على تعديل نظامها الداخلي لتصبح نقابة موظفي الإدارة العامة، هما من رموز إنقاذ لبنان وإعادة تأسيس الدولة. ولمن يسأل مشككاً ومتفرجاً عن كيفية تكوين الهيئة الدستورية الانتقالية التي دعا إليها المؤتمر، نقول: حنا ومحمود هما دون شك عضوان في الهيئة التأسيسية، وقد اكتسبا شرعيتهما من نضال هيئة التنسيق. باقي أعضاء هيئة التنسيق مدعوون للقيام بالخطوات ذاتها.
لحنا غريب الذي ربما استاء من ملاحطات أدليت بها وبعض الرفاق حول الموقف الذي اتخذه عندما طالبه مجلس النواب بتقديم الاعتذار لأن بعض أعضائه ورئيسه اعتبروا أنه مسّ «كرامتهم» من خلال تصاريح أدلى بها عن «الحرامية»، فدخل بشروحات وتفسيرات. إذا كان قد اعتبر أن كرامته قد مسّت، أقول أمام الملأ إنني أعتذر منه، لأنه صاحب كرامة استحقها من نضاله.
إنما نعم يبقى لدينا ملاحظات، وهي تنطلق من الحرص على الانتصار، ولذلك هي ضرورية، فكلنا نخطئ ونتعلم. وتضييع أي فرصة للتغيير خطأ تاريخي.

معالم المواجهة

هيئة التنسيق ظاهرة جديدة، لا بل ظاهرة غير متوقعة، وهي جديدة وغير متوقعة للجميع:
هي كذلك طبعاً في أعين السياسيين والمتسلطين الذين لم يفهموا طبيعة هيئة التنسيق وحراكها. وكيف نلومهم وقد تعوّدوا على الاتحاد العمالي الطيّع: قُم فيقوم، نَم فينام؟
لكنها جديدة وغير متوقعة أيضاً في أعين قادة هيئة التنسيق وكوادرها، الذين لم يدركوا، أو لم يدرك العديد منهم، أن لا نية لدى السلطة للإقرار بحقهم، في حين أنهم باتوا يمسكون بالقرار وبالمبادرة، ليس فقط على الصعيد الاجتماعي بل على الصعيد الوطني أيضاً.
المشهد الذي أنتجه حراك هيئة التنسيق يشبه المشهد العربي العام، حيث لم تدرك المعارضات أنها ملزمة بصياغة مشروع سياسي واقتصادي ومؤسسي، بينما لم تدرك السلطات القائمة أن أدواتها المعهودة لم تعد قادرة على التعامل مع متغيرات المجتمع، الجديدة وغير المتوقعة للاثنين معاً.
الأمثولة البارزة التي فرضت تجربة ثلاثين شهراً استخلاصها أن مجالات العمل المطلبي والتحركات الضاغطة قد استنفدت. لا يجوز أن تعتبر عشرات القرارات والاتفاقات وألوف المواقف بمثابة لا شيء؛ ولا ألا تغيّر الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات شيئاً وكأنها لم تحصل، من دون استخلاص العبرة. العمل المطلبي والضغط من خلال الإضراب يفترضان أن المضربين، إذ يخسرون دخلهم وسبل معيشتهم خلال الإضراب، يجعلون صاحب المؤسسة يخسر، فيجسدون حقيقة المصالح المشتركة بين الطرفين، ويلزمون صاحب المؤسسة بالتنازل عن موقع القرار الذي يعتبر أنه يتمتع به في الأيام العادية، فيتفاوض معهم حول إعادة توزيع الناتج بين أجور للعمل وأرباح لرأس المال. عندما نتكلم على تحرك مطلبي في إطار الدولة، يجب ألا ننسى أن السلطة السياسية، نواباً وحكومة، ليسوا أصحاب الدولة، الدولة هي ملك المواطنين، هم ليسوا إلا وكلاء عن المواطنين، مجلس إدارة يمثل المالكين. ومن يتضرر من إضراب الموظفين هم المواطنون. ما تبيّن من التجربة أن الوكيل لم يكترث بتضرر مصالح موكليه، لا بل إنه واجه المضربين باستعداده لتصفية المؤسسة، أي الدولة، طبعاً بعدما استهلك حيل المماطلة والدجل والمراوغة. هذا الموقف يعني ببساطة أن الوكيل، أي الطاقم السياسي، خان الأمانة والتزم بمصالح بعض زبائن الدولة، مضاربي المال والعقارات، ليس على حساب الموظفين، بل على حساب المواطنين، والموظفون مواطنون هم أيضاً.
هذا يعني أن ممثلي المواطنين فقدوا شرعيتهم التمثيلية. هذا ما حققته وما كشفته هيئة التنسيق. فقدان شرعية الوكيل يحتم على الموظف أن ينقل جهده وتركيزه من الضغط على الوكيل الخائن إلى مخاطبة أصحاب الشأن الحقيقيين مباشرة، أي المواطنين، وإلى ابتداع صيغة مؤسسية بديلة من الوكالة الشكلية التي انكشف سقوطها. هذا يعني الانتقال من الموقف المطلبي إلى مواجهة مؤسسية مع كل النظام الذي يفصل بين مصالح الناس وتمثيلهم السياسي.
أيّ وسائل يلجأ إليها الوكلاء فاقدو الشرعية، للاستمرار بالمناورة بعدما استهلكوا وسائل التهويل والمماطلة والمحاججات حول الأرقام وغيرها؟ يمكن التعرف إلى وسيلتين، ويجب التنبه إلى كليهما.
خطة دفاعهم الأولى هي التطويق. هدفها إرهاق هيئة التنسيق ودفعها إلى خفض سقف مطالبها، بمعزل عن مهماتها الوطنية. هذه الخطة هي التي طغت على المشهد خلال الأشهر الستة الأخيرة، بعد صدور تقرير لجنة إبراهيم كنعان النيابية. جندت مواقع الهيمنة الطبقية قواها الطائفية المساندة لتحمل إقرار «سلسلة الرتب والرواتب» تبعات هائلة: إقرار السلسلة سوف يرفع الأسعار ويزيد البطالة ويرفع أقساط المدارس على الأهالي ويرفع الفوائد على المقترضين ويخفض الفوائد التي يقبضها صغار المودعين ويزيد عجز المالية العامة ويستنفد احتياطي مصرف لبنان ويطيح سعر صرف العملة الوطنية تجاه الدولار الأميركي ... كل ذلك لإرضاء نزوات مجموعة من الموظفين الفاسدين والمعلمين التنابل، فينبري السياسيون النبلاء للدفاع عن عموم الناس ويضعون محاربة الفساد و«إصلاح الإدارة» فوق كل اعتبار. أعطت هذه الحملة المسعورة التي لم تتردد في التزوير المفضوح والابتزاز العلني ثمارها. فبدت هيئة التنسيق مطوقة، ولولا انفضاح رياء السياسيين لكانت الخطة قد نجحت واضطرت هيئة التنسيق إلى التراجع. الرد على محاولات التطويق يكون أولاً بالانطلاق من أن لا سلسلة ولا إصلاح إدارياً، بل مجرد تصحيح للأجور تأخر ثماني عشرة سنة، ونسبته حتى 2012 بلغت 121%، وتبلغ حتى اليوم 130%. مجرد القبول بذلك يعني تنازلاً عن كل الفترة الماضية. تقوم هيئة التنسيق بإعلان أن أي قرار يتخذ بشأن السلسلة سوف يقارن بهذا الحق المطلق، وأي نقص مرفوض إلا بشرط. الشرط أنه، مقابل كل ليرة يتنازل عنها الموظفون من حقهم، يتنازل في مقابلها أصحاب المصارف عن ليرة ثانية، ويتنازل أصحاب الودائع المصرفية الكبرى عن ليرة ثالثة، ويتنازل تجار الأراضي عن ليرة رابعة، ويصرف مجموع المبالغ المتساوية الأربعة لصالح اللبنانيين في مجالين: أولاً، تأمين التغطية الصحية الشاملة للبنانيين المقيمين، وبالتالي تحويل اشتراكات أصحاب العمل في صندوق المرض والأمومة إلى زيادة على الأجور؛ وثانياً، تعميم التعليم الرسمي ولا سيما في مرحلة الحضانة، وإرساء صيغة تعاقدية مع المدارس الخاصة التي تلتزم كلياً بالمنهج الرسمي، وتقلع عن أي نظام أو إجراءات تعليمية تتناقض والثقافة الوطنية وتعزز الغرائز الطائفية، وتمتنع عن تحقيق الأرباح، وتؤمن نتائج في الامتحانات العامة لا تقل عن نتائج التعليم الرسمي، لتغطية جزء من أقساط تلاميذها، إما نقداً وإما بانتداب أساتذة من التعليم الرسمي إليها، فتلغى بدعة المدارس المجانية وتسقط مبررات المنح التعليمية. عندها سوف يرى اللبنانيون من هو الحريص فعلاً على مصالحهم، ومن هو الذي يخدم مصالح المضاربين.
لكن خطة دفاعهم الثانية قد تكون أدهى، وهي الاستيعاب، هدفها استعادة الشرعية المفقودة لرموز السلطة أو لبعضهم، ولو بدفع ثمن يتمثل بتلبية جزئية للمطالب المادية، من خلال سعيهم لأخذ وكالة من هيئة التنسيق للتفريط بدورها، مع مطالبتهم بالشكر والتأييد لأنهم انتقلوا من قمع الحقوق بالكامل والإخلال بواجبات مواقعهم، إلى التظاهر بالدفاع عن بعض الحقوق والقيام ببعض الواجبات، بعد سبات طال ثماني عشرة سنة. الرد على محاولات الاستيعاب يكون بنقل المواجهة من الحيز المطلبي إلى الساحة الوطنية والمؤسسية، وبتثبيت الوقع الفعلي لميزان القوى المعبر عن الشرعية المكتسبة. من الإشارات إلى هذه الخطة، الحرص التافه والفارغ على الكرامات والسعي المسرحي لتسجيل انتصارات مفتعلة على هيئة التنسيق، مع ادعاء مناصرة مطالبها. لا شكر يستحق لمن انتقل من تقصير بنسبة مئة في المئة طوال عشرين عاماً إلى تطويق يتضمن أكل خمسين في المئة من الحقوق، ومئة في المئة من آمال التغيير.
ولم يعد خافياً على أحد مدى التناغم والتكامل بين رواد التطويق والاستيعاب.

ما العمل؟

الامتحانات للتلاميذ حصلت في 2012 و2013، وعلى دورتين في كل مرة، ولشهادتي البريفيه والبكالوريا، فنجح من نجح ورسب من رسب، وحصلت نصف امتحانات في 2014، في سياق مسرحية لم نفهمها. أما امتحانات مسؤولي الدولة فقد جرت لعشرين مرة، بدورات استلحاقية متتالية، لمختلف الشهادات، شهادة رئيس جمهورية، وشهادة رئيس حكومة، وشهادة وزير، وشهادة رئيس مجلس نيابي، وشهادة نائب، ولم ينجح أحد. لم يرسبوا بالعلامات، بل رسبوا لأنهم لم يحضروا يوم الامتحان، ولأنهم لم يحصلوا على إفادة المدرسة حيث لم يقوموا بفروضهم خلال الدراسة، ولأنهم غشوا خلال الامتحان، غشوا من انتدبهم وانقلبوا على مواقفهم المبدئية والمعلنة تكراراً.
ميشال سليمان اعتبر أن مخالفة القانون إذا استمرت عشر سنوات تصبح أمراً واقعاً وعرفاً مستقراً يضيع معهما الحق، نأسف لعدم التمديد لإنجازاته؛
نجيب ميقاتي غاب مع كتلته عن الجلسة لأنه ضد إقرار السلسلة التي أحالتها حكومة نجيب ميقاتي واعتبرتها أهم إنجازاتها؛
نبيه بري انتصر بعد تأخر قارب عقدين لحقوق الموظفين المحرومين من حقوقهم، من باب استيعاب حركتهم، إنما بعدما رعى غسان غصن وأعوانه، وحشر الأزلام، ومرر التسويات؛
التيار الوطني الحر حقق المستحيل فأبرأ من هدم الدولة وقوّض أسس الانتظام في المجتمع؛
حزب الله اعتبر أن تحرير الأرض أمر منفصل عن تحرير المواطن من الذل؛
وليد جنبلاط صرف التقدمية والاشتراكية كتلة نضال للدفاع عن المصارف؛
لعل فؤاد السنيورة كان الأكثر انسجاماً مع نفسه، وإن لم ينسجم مع بهية الحريري. ولعله يريد مقايضة إمرار سلسلة مشوّهة بإمرار قانون للإيجارات عبر تعرجات المجلس الدستوري غير المفهومة. قانون يضرب المالكين والمستأجرين، ويفسح المجال رحباً أمام مضاربي العقارات والمصارف لاستباحة ما تبقى من بيروت.
العمل المطلوب بات يقضي بالتوجه إلى الغالبية من اللبنانيين الذين لا يزالون يتعلقون بزعماء طوائفهم بسؤال كل منهم: أين أنت يا مناصر زعيم الطائفة فلان من خيانة زعيمك لك، في مقابل ولائه الكامل لسلطة المال وإيعازات السفراء؟ هل لاحظت اختفاء أصحاب الرساميل عن الساحة والشاشات لاطمئنانهم إلى من تولى المقاولة عنهم؟ والتوجه إلى القلة من أصحاب الرساميل والمواقع الذين يعلمون علم اليقين ما آلت إليه مصائر الاقتصاد والمجتمع، كي يتجرأوا ويرفعوا صوتهم في وجه الريعيين وأرباب الصفقات، ليقولوا أن لنا مصلحة في زيادة القوة الشرائية للبنانيين ولنا مصلحة في دولة فاعلة ولا يزال لنا أمل في المستقبل، ولم نقبل بتقاسم تركة مجتمع واقتصاد يحتضران.
كي لا نكون ظالمين، اثنان يستحقان ربما شهادة من درجة نائب: إبراهيم كنعان وجورج عدوان. إبراهيم كنعان لما صرح «أن المسألة لا تدور حول الأرقام، بل تطال موقع الدولة والنموذج الاجتماعي للبلد»؛ وجورج عدوان لما صرح «أن المسألة تعني الانتقال بالبلد من صراع العصبيات إلى الصراع الطبقي»، وهو ما يقلقه طبعاً.
وعليه، ندعو هيئة التنسيق النقابية إلى الإقدام على خطوتين:
إعلان تحول روابطها إلى نقابات، وإنشاء الاتحاد العام للعاملين والموظفين في لبنان ودعوة سائر النقابات الحقيقية للانضمام إليه، وتشكيل ثلاث وحدات ضمن الاتحاد: تعنى الأولى باقتراح السياسات والقوانين والأنظمة، والثانية بالتثقيف والتدريب، والثالثة بالتفتيش وتلقي الشكاوى وملاحقة حالات الفساد.
تنظيم انتخاب من الشعب، في المدارس وتحت إشراف المعلمين والموظفين، كما تحصل كل الانتخابات أصلاً، لرئيس انتقالي للجمهورية على دورتين، لفك أسر اللبنانيين جميعاً بعدما أخذوا رهائن للنظام المسيء المتهالك، وليس لفك أسر التلاميذ حصراً من استحقاق الامتحانات، على أن يقوم هذا الرئيس بمواكبة المرحلة الانتقالية لا كما تسير في تنظيم الفيتوات وبانتظار تشكل وصاية خارجية متجددة، بل وفق البرنامج الإنقاذي الموضوع في المؤتمر والمذكور في البيان، أي لبناء دولة، ودولة عن جد، لا منتدى لممثلي الدول الخارجية وللطوائف، أي برعايته تشكل هيئة تأسيسية انتقالية تضع إعلاناً دستورياً يسمح بإجراء انتخابات لمجلس نيابي تأسيسي، يضع بدوره دستوراً جديداً للبلاد فيتم إقراره بالاستفتاء العام.
عدم التقاط فرصة التغيير مسؤوليّة تاريخيّة.

بيان ألقاه الوزير السابق شربل نحاس في المؤتمر الصحافي الذي عقد يوم الخميس في 12 حزيران 2012 في قاعة نقابة الصحافة في بيروت.