التظلُّل في فيء الشجرة الكبيرة المترامية الأطراف مقابل مبنى الإسكوا محظور. هنا، لا يستطيع علي برو، الموظف في وزارة الزراعة، أن يُضرب عن الطعام حتى إقرار سلسلة الرواتب. يجب عليه أن يختار زاوية أخرى في ساحة رياض الصلح لا تؤثر في أمن سكان المكان. يقرر أن يضع سريره ولافتاته أسفل التمثال ويجلس في عين الشمس. يحتار كيف يؤمن مساحة فيء للزوار من زملائه. «يُشحّل» من أغصان شجرة صغيرة ليخلق فجوة يضع فيها كرسيين للمتضامنين. في اليوم الأول، يحرص هؤلاء على إحضار المياه ويمكثون مع برو حتى منتصف الليل. لكن لم يتطوع أحد منهم للانضمام إلى التحرك بعد. الخطوة التي خرجت من رحم حراك هيئة التنسيق النقابية، كما يصرّ المهندس الزراعي على توصيفها، ليست سهلة وتحتاج إلى إرادة وطاقة كبيرة، أو هذا ما راح الموظفون يؤكدونه بدورهم، وإن كان ثمة من سأل «هوي قاعد بلا أكل واليوم فكّوا الإضراب، وين المنطق؟»، في إشارة إلى تعليق الإضراب في الوزارات والإدارات العامة، ابتداءً من يوم أمس، بعدما كان مقرراً حتى 19 الجاري فقط. وزير الزراعة أكرم شهيّب كان أيضاً في صفوف المتضامنين «على الواقف». عرّج على برو وهو في طريقه إلى مكتبه في «الداون تاون» الذي هرب إليه من بئر حسن حيث المقر الأساسي للوزارة بذريعة التفجيرات الأمنية. قال شهيب إنّه حضر لأنّ برو موظف في وزارته، ورأى أنّ من واجبه أن يتضامن معه. إلا أنّه لم يتردد في مصارحته بأنّه لا يوافق على عنوان تحركه، «فموقفنا السياسي هو أنّ السلسلة ستجلب الكارثة إذا بقي التوازن المالي مفقوداً، كذلك فإنّ عدم تأمين الواردات والتحصيل بشكل سليم سيوقعنا في ورطة اقتصادية كتلك التي وقعنا فيها عام 1992، الله يرحم النائب علي الخليل، لكن الرئيس حسين الحسيني حي يرزق اسألوه».
يتدخل النقابي محمد قاسم الذي كان حاضراً في الساحة ليسأل شهيب: «لماذا التعطيل ما دام التوازن المالي قد تأمن بإقرار رئيس المجلس النيابي والنواب أنفسهم؟ ثم إنّ «الناس يستغربون هذا الموقف السلبي للحزب التقدمي الاشتراكي والذي يأتي منفصلاً عن تاريخه». يجيب الوزير: «لا أعرف إذا كان التوازن قد تأمن فعلاً، فقد كنت مسافراً في الأسبوع الماضي، أما في النقطة الثانية، فحزبنا لا يعطّل بدليل إصراره على حضور الجلسات التشريعية».
تضامن أكرم شهيب مع برو وقدم له زهرة غاردينيا
رفض التوقيع على صفقة فحُرم من المخصصات الإضافية
برو من جهته لا يتردد في القول لوزيره «أشكرك على التضامن، لكنني مظلوم في وزارتك». لا يوافق شهيب على هذا الكلام، باعتبار أنّه جديد في الوزارة «ولم أفك أسرارها بعد»، على حدّ تعبيره. تكتشف أن ثمة مصوّراً يرافق الوزير ويرصد الوقفة التضامنية «الاستعراضية» وإلى جانبه مستشاره الإعلامي نبيل بو غانم. يقدم شهيب زهرة غاردينيا إلى برّو وينسحب بهدوء إلى مكتبه.
السؤال الذي يلحّ اليوم، لماذا علي برو بالذات ولا أحد غيره؟ لا تتأخر كثيراً في معرفة ظروف موظف «بدّو يجوع» ليحظى بـ«شوية تحسينات على راتبي تعينني في آخرتي» قبل 11 شهراً من تقاعده، لا سيما أن راتبه التقاعدي لن يتجاوز 500 دولار أميركي. «محروق لهيدي الدرجة وليس لديّ ما أخسره»، يقول. ويتحمس لسرد فصول حكايته مع دولة عاقبته لأنّه رفض الانصياع لدهاليز الصفقات والمشاريع المشبوهة.
دخل برو الوظيفة العامة، وتحديداً في ملاك وزارة الزراعة، عام 1995 بموجب مباراة عبر مجلس الخدمة المدنية، وهو يحمل دكتوراه في الهندسة الزراعية. يومها، عيّن موظفاً مهندساً في دائرة البستنة، وبقي يترقى في السلم الوظيفي إلى أن أصبح رئيساً لمصلحة البستنة والمحاصيل الحقلية في عام 2000، حيث كان يؤخذ عليه أنّه يدقق كثيراً في دفاتر الشروط للتلزيمات.
لكن عام 2005 لم يكن عاماً عادياً بالنسبة إليه، إذ رفض التوقيع على مشروع مشبوه، كما يسميه، وبقوا يجرجرون فيه في عهد ثلاثة وزراء، إلى أنّ وقّعه شخص آخر غيره. في ذلك الوقت وضع أمام خيارين «إما بتمشي معنا أو....». اتخذ قرار بحرمانه من الساعات الإضافية والمكافآت السنوية والسفرات وعضوية المشاريع واللجان. يومها، أدرك أنّ كل هذه المخصصات الإضافية إلى الراتب ورقة بيد الوزير أو المدير العام ولا يأخذها إلا من يرضى عنه هذان الاثنان، علماً بأنّ القانون يضع ضوابط لتوزيعها، بحسب تعبير برو.
في عام 2009، لم يعد برو رئيساً للمصلحة، بل قرر تقديم استقالته «التي قبلت بسرعة البرق»، كما يقول. ومنذ ذلك الحين، عاد موظفاً عادياً ليس له علاقة بما يحصل حوله وغير قادر على معايشة الفساد. بل إنّني «حشرت في الزاوية، علماً بأنني فزت في مباراة لمجلس الخدمة المدنية في عام 2010 لأكون رئيساً لقسم الخضروات، إلاّ أنّ أياً من معاملات هذا القسم لا تمر عليه».
نسأل برو: «ما دمت نلت الدكتوراه، لماذا تفرغت للعمل في الإدارة العامة؟ لماذا لم تبحث عن خيارات أخرى مثل التعليم الجامعي مثلاً؟». يجيب بأنه حاول أن يحظى بساعات تعاقد في الجامعة اللبنانية، لكنّه لم يوفق بذلك لكونه متخرجاً في إحدى جامعات بلغاريا. قال له أحدهم: «متخرّجو الدول الاشتراكية ليسوا مرغوبين في الجامعة». عندها عدل عن دخول الجامعة الوطنية.
لكل هذه الأسباب، خرج برو إلى الشارع فور سماعه نبأ تعطيل الجلسة التشريعية، لا سيما أن رئيس المجلس النيابي نبيه بري قرر إبقاءها مفتوحة.«ماذا يعني ذلك؟ الهيئة القصة مطوّلة يمكن يوم ويومين ويمكن شهر وشهرين»، قال برو لنفسه. لكن الأخير لم ينس توقيع إجازة إدارية أولاً، كي لا تكون لدى أحد أي حجة لتسجيل أي نقطة سوداء عليه «وهو أمر لم يحصل طوال مسيرتي الوظيفية».
لم تكن خطوة الإضراب عن الطعام وليدة الساعة، بل كان يستعد لها بالتنسيق مع رابطة موظفي الإدارة العامة، لا سيما أنّه عضو في الرابطة. يبدو مرتاحاً كما يقول إلى فكرة «أنّه يستطيع أن يصمد لنحو 10 أيام على الأقل، فأنا معتاد هذا النوع من التحركات، لما بسقط وبروح على المستشفى، أكيد في حدا رح يكمل الطريق». لماذا أنت واثق إلى هذه الدرجة، وخصوصاً أن لا مؤشرات على ذلك حتى الآن؟ يجيب: «ما بتخلا من الشباب الحريصين على قيام الدولة!».