إسطنبول | كان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الزعيم العربي الأول الذي وقّع معه نظيره التركي رجب طيب أردوغان، في تشرين الاول ٢٠٠٩، ٤٨ اتفاقية للتعاون الاستراتيجي في المجالات كافة، تبعتها اتفاقيات مع دمشق في كانون الأول من العام نفسه، وسبق ذلك اتفاق سوري ــ تركي مشترك لإلغاء التأشيرات بين الدولتين، وانضم إليه في ما بعد لبنان والأردن وليبيا ودول عربية أخرى.
تردد أردوغان في تطبيق هذا الاتفاق مع العراق بسبب الوضع الداخلي لهذا البلد الجار ومشاكله المعقدة مع تركيا، خصوصاً في قضية الأكراد ومساعي أنقرة لتحقيق التوازن بين السنّة والشيعة داخلياً، وبالتالي مراعاة علاقاتها الإقليمية مع دول الجوار العراقي، وفي مقدمتها إيران ودول الخليج.
ثم جاء «الربيع العربي» والأزمة السورية ليضعا أنقرة في وضع إقليمي خاص، بعدما اتخذ أردوغان موقفه المعادي للنظام السوري في سوريا، منحازاً الى التحالف السنّي العربي المدعوم أميركياً وأوروبياً. منذ اليوم الأول، هاجم أردوغان إيران والمالكي وحزب الله، واتهمهم بدعم الرئيس السوري بشار الأسد على خلفيات مذهبية. شمل الهجوم زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال قليشدار أوغلو، معتبراً أنه «يتضامن مع الأسد لأنه علوي هو الآخر». ثم جاء فتح الحدود التركية ــ السورية أمام الآلاف من التكفيريين الآتين من مختلف أنحاء العالم للقتال ضد الدولة السورية، كموقف عملي تركي يعكس عقيدة أردوغان الذي اعتقد بأنه سيكون زعيماً للعالم الإسلامي السنّي، خصوصاً بعد تسلّم الإخوان المسلمين للسلطة في تونس ومصر.
حينها، كان الهم الوحيد لأردوغان هو التخلص من الأسد عبر التحالفات الإقليمية والدولية ودعم الجماعات الجهادية التكفيرية التي حصلت على الدعم العربي والدولي عبر الحدود التركية، ومن دون أن يهمل الثنائي أردوغان ــ داوود أوغلو التحالفات الإقليمية مع السعودية وقطر ومصر قبل سقوط مرسي، لتضييق الحصار على إيران، ثم العمل على إسقاط الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، وأخيراً التخلص من المالكي بحجة أن هذه الجهات الثلاث هي سبب صمود الرئيس الأسد.

ما يحصل في العراق اليوم هو حلقة جديدة من سلسلة السياسات السرية والعلنية التي انتهجها أردوغان وحلفاؤه في السنوات الثلاث الأخيرة. محاولتهم التخلص من المالكي تهدف الى تضييق الحصار على الأسد. وكان اختيار التوقيت ذا دلالة مهمة، لأنه يسبق مساعي إيران لإبرام اتفاق تاريخي مع الغرب حول برنامجها النووي. ويعتقد أردوغان أن مواقفه اليوم ستساهم في المخطط الأخير لخنق سوريا عبر الحدود التركية والأردنية واللبنانية والعراقية بعد سيطرة «داعش» وحلفائه على الحدود العراقية ــ السورية.

يذكر أن أنقرة استضافت النائب السابق للرئيس العراقي طارق الهاشمي مقدمةً له ولأنصاره دعماً مادياً وسياسياً، وهو ما فعله أيضاً مع رئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي وأنصاره، خصوصاً العشائر في الموصل والرقة والحسكة. ولم يهمل أردوغان كذلك الاهتمام بإقليم كردستان وبرئيسه مسعود البرزاني، مستغلاً مرض الرئيس العراقي جلال الطالباني، حيث دخل في تحالفات سياسية واقتصادية وأمنية استراتيجية مع البرزاني بهدف تضييق الحصار على المالكي. وفي هذا الإطار، جاء قرار أردوغان باستقبال البترول الكردي مباشرةً من ميناء جيهان التركي على الرغم من اعتراض حكومة بغداد، ليثبت جدية الحسابات التركية في العراق. وسبق لأنقرة أن حققت مكاسب مالية كبيرة من خلال مشاريع الشركات التركية في شمال العراق. وحاول رئيس الحكومة التركي أيضاً إقناع أكراد سوريا بالتمرد على الأسد.

هذه المعطيات تثبت تورط أنقرة في أحداث العراق. فبعدما مني بهزيمة في سوريا، يحاول أردوغان، اليوم، بضربةٍ استباقية، كسب «الكيان السنّي» في العراق وربما في سوريا، في موازاة سعيه لضمان التحالف مع البرزاني والإقليم الكردي عبر مزيد من التنسيق مع الزعيم عبدالله أوجلان الذي سيخرج من السجن قريباً، وذلك بعد صفقة أبرمها أردوغان بهدف كسب ودّ الأكراد في الانتخابات الرئاسية المقبلة. في وقت ترى فيه أحزاب المعارضة التركية أن أردوغان ضحّى بتركمان الموصل (تلعفر) لأسباب طائفية، كما سيضحّي بتركمان كركوك مقابل المزيد من البترول والغاز الطبيعي في الشمال العراقي.
يبدو أن أردوغان يسعى الى تعويض رهاناته الخاسرة من مصر الى سوريا، في العراق. رئيس الحكومة الطامح الى الرئاسة، وقف الى جانب دول الخليج لتحقيق حلم بن غوريون الذي قال من أنقرة، عام 1957، إن قوة إسرائيل تكمن في تدمير جيوش ثلاث دول وهي سوريا، العراق ومصر.