عندما يُصبح الاسم عنواناً يعرفه سائق الأجرة في نواحي بيروت، وعندما تُصبح الكُنية مكاناً يجتمع فيه الناس... فأنت أمام «قهوة أبو عسّاف». لم يكن ذاك المقهى يحتاج إلى انفجار سيّارة قربه حتى يكتسب شهرة، إذ ليس ثمّة من لا يعرفه في الضاحية الجنوبية لبيروت. من لم يدخله أو يعاينه يوماً فإنه سمع باسمه حتماً. هو «مقهى الرصيف» الأول في الضاحية.
الأول شهرة والأول سبقاً. مضت 18 عاماً على افتتاحه، ومنذ ذلك اليوم تجده على حاله، مقهى الشباب والكهول، ملاذ المتسكعين والعائدين من العمل، زاوية لـ«أخذ النفس» ولعب «الداما» ومشاهدة مباريات كرة القدم. إحدى الشاشات الكبيرة انكسرت، أول من أمس، أثناء نقل مباراة «مونديالية». طاولها الانفجار. هناك من لديه هذا الكمّ من الخبث ليفعلها، يعيش بيننا، أعدّ نفسه ليفسد على الناس فرحتهم المتواضعة في متابعة كأس العالم. كثيرون ممن يرتادون المقهى فقراء، من «الدراويش» والبسطاء، ربما كانوا يأتون لأن لا كهرباء في منازلهم. عندما لا يكون هناك نقل للمباريات، في سائر الأيام، فإن أكثر كلمة يمكن أن تسمعها في ذاك المقهى: «كِش». هي فعل أمر للمنافس في لعبة «الداما». تلك اللعبة التي ربما كان لدى «أبو عساف» أمهر لاعبيها على مستوى لبنان. بطل العالم فيها، كما يقال هناك، هو المحامي اللبناني شادي قليط. عندما يحضر يقولون جاء «الأستاذ». لقد فاز على لاعبين من تركيا والكويت وسافر إلى أكثر من بلد من أجل «الداما». من مقهى «أبو عساف» شاعت شهرة «الأستاذ» قليط. من هناك خرجت بعض «حركات الحجارة» (قطع اللعب) المبتكرة، التي لم تكن معروفة من قبل، فحفظها الجميع على أنها «حركة قليط». هذه الحركات حفظها اللاعبون، خارج لبنان، بهذا الاسم أيضاً، واليوم تنتشر على الإنترنت.

المقهى الذي يقع
عند أحد مداخل الضاحية، من جهة الشيّاح، لا صبغة طائفية له
بالمناسبة، تلك اللعبة «الذهنية» يُعتبر أمهر الناس في لعبها من منطقتين: الضاحية وطرابلس. «أبو عساف» ممثل الضاحية وبيروت عموماً. ليلة الانفجار كان هناك بعض الطرابلسيين في المقهى، جاؤوا من الشمال ليتحدوا مشهوري اللعبة في الضاحية، وقبل مدة ذهب وفد من الضاحية إلى طرابلس لتحدي لاعبي عاصمة الشمال. تلك الحركة التنافسية مستمرة منذ سنوات. ذاك المقهى الذي يقع عند أحد مداخل الضاحية، من جهة الشيّاح، لا صبغة طائفية له. جوزف معيكي كل ليلة هناك، الرجل الستيني، بشعره الأبيض، كان ظهر أمس عند الرصيف يتساءل: «لماذا يفعلون هذا بالناس؟». سيسمع جوزف الكثير من الإجابات، لكن أياً منها لن يشفي حيرته، فشيء ما في نفسه «غير قادر على تصديق أن هذا يحصل فعلاً». يلتفت إلى السيارات المحترقة، وينادي رفيقه في المقهى أبو أسامة، فيقول: «شو طينتهم هول المجرمين.. من شو معمولين؟!». جوزف سيأتي الليلة إلى مقهاه، وغداً وبعد غد، فما بينه وبين «أبو عساف» لا يعلمه إلا هو وفنجان القهوة ورقعة «الداما».
أبو أسامة (صخر غزال) سوري يعيش في لبنان منذ أكثر من 20 عاماً. من روّاد المقهى منذ سنوات. ليست صدفة أن يكون على طاولة واحدة مع جوزف وعلي منصور. باتوا أصدقاء السهر هناك. لو تمكّن الانتحاري من المقهى لكانت الحصيلة حتماً من كل الطوائف. هذا ليس «كليشيه» إطلاقاً. المقهى الكائن على الرصيف هو في المنطقة التي كانت قديماً تُعرف بـ«خطوط التماس». هذا المصطلح الشهير الأصيل ضمن «أدبيات الحرب الأهلية». هكذا هي منطقة الطيونة حيث المقهى، تقاطع بين الضاحية و«بيروت الغربية» و«بيروت الشرقية». حسين عسّاف، صاحب المقهى، يتحدث متأثراً عن شهيد الأمن العام الذي «فدى الناس». يشيح بنظره إلى حيث كان يجلس عنده، على تلك الطاولة، ويقول: «صحيح أن بعض الناس سيزداد عندهم منسوب القلق، ولكن نحن كنا هنا منذ سنوات بعيدة، قبل حرب تموز وبعدها، ومرّت بنا الكثير من الأحداث، وبقيت هذه القهوة مكاناً لكل الناس... سيعود الناس إلى التنفّس هنا بعيداً عن ضجيج العمل وتعب النهار». أبو عدنان لن يكفّ عن ارتياد المقهى، سائق الأجرة السبعيني، الذي كان هناك لحظة الانفجار. كل ليلة يأتي ويركن سيارته في «الزاروب» المحاذي للرصيف. يقولها بصراحة: «أصلاً ليس لنا مكان آخر لنذهب إليه. الرصيف وهذا المقهى وهؤلاء الناس الطيبون هم آخر ما بقي لنا. حتى الرصيف لحقونا إليه، ونحن لن نتركه، فليس لنا سواه». علي منصور، لحظة دوّى الانفجار، لم يخطر في باله أن المسألة تتعلق بسيارة مفخخة وبانتحاري. يقول إن عقله لا يزال يرفض الفكرة، ولهذا «في البداية ظننت أن قذيفة 155 ملم سقطت بيننا، كما كان يحصل أيام الحرب الأهلية، أما حكاية الانتحاري فوالله ما عم بقدر استوعبها بعد. كانت سلامتنا من الله».
داخل مقهى «أبو عساف» بيئة خاصة، تضج بالحياة ليلاً، مع مفردات قد لا يفهمها سوى الروّاد. علاقات اجتماعية من نوع خاص تولد بين الساهرين. المنافسة إلى حد الانفعال في لعب «الداما» من خاصية المكان. حفظ الناس أسماء بعضهم، والاستفسار عن أسباب غياب أحدهم، وبث هموم النهار بين الحاضرين، كل ذلك يخلق جوّاً من العاطفة والألفة والدفء. تلك الأجواء التي لن تجدها في المقاهي العصرية، الباردة جداً، مقارنة بـ«قهوة أبو عسّاف» وأخواتها. صحيح أن الحديث هو عن «مقهى رصيف»، لكنه لا يشبه تلك القائمة على أرصفة باريس. حتى تلك التي في وسط بيروت لا قاسم مشتركاً بينها وبين «أبو عسّاف» إلا الرصيف. عند «أبو عساف» الكل قادر على شراء فنجان القهوة وكوب الشاي وقنينة المياه. مقهى بسيط لـ«كل الناس» كما يقول صاحبه. حسين يكون في النهار عادة، وفي الليل يكون الدور على «أبو نزيه» لإدارة المحل. لكن ليلة الانفجار كان الكل هناك. علي منصور، ذاك الذي أتعبته سنوات الحرب الأهلية، ويعيش اليوم شكلاً جديداً من القلق الأمني، يودّعك من على كرسيه، قائلاً: «ليك هون رح تضل تسمع كلمة كِش داما، رح نضل نشرب قهوة ونلعب، ورح نضل نقول لكل مجرم واطي قليل الأصل... كِش من هون».