كانت هذه آخر صورة تتذكرها عن «حمودي»: يده الصغيرة التي لوّحت لها من الزجاج الخلفي للسيارة التي أقلته وشقيقه مع والدهما. بعد تلك الصورة، لم يعد مهماً ما قد تراه ملاك، الأم التي تكبر اليوم بلا «حمودي». كان ذلك قبل خمس سنوات تقريباً. عاشت ملاك، ما قبلها وما بعدها، خائفة من الموت قتلاً على يدي زوجها. والخوف مبرر هنا، فالشابة التي آثرت أن تستعير اسماً، سيحدث في أية لحظة أن يخرج الوحش ليقتلها.

ملاك كان يمكن أن تكون رقية منذر أخرى. أو رلى يعقوب أو منال العاصي. كان يمكن أن تموت قتلاً بطريقة ما، لكنها فعلت ما لم تجرؤ عليه الأخريات. لم «تتستّر» طويلاً على ضرب زوجها شبه اليومي لها. ساقته إلى التوقيف، لكنها، لم تفعل ذلك إلا عندما اقترب الموت منها.
حكاية ملاك طويلة ومؤلمة. عمرها عشر سنوات تقريباً، أنجبت خلالها طفلين. «حمودي» أحدهما، الذي صار له من العمر 5 سنوات «ربما»، تقول. ربما، لأن ذاكرتها لم تعد تسعفها، فقد أصاب التلف أحداثها الكثيرة بسبب الضرب المتكرر على الرأس ، بحيث «صار معي نوع من مرض الألزهايمر سيرافقني مدى الحياة». أما الثاني، فأكبر بسنتين تقريباً.
أما ما بقي من تلك الأحداث، فترويه ملاك «للمرة الألف»، خوفاً من نسيانه. تبدأ قصتها من اليوم الأول لزواجها «عندما ضربني بقوة لأنني لم أتجاوب معه». كانت هذه «الضربة» هي الثانية، فالأولى كانت خلال فترة الخطوبة، ويومها ثارت ثائرة شقيقها البكر، طالباً منها أن تتركه، متذرعاً بأسباب كثيرة منها «إنو ولادي رح يكونوا بلا هوية وبلا حقوق في لبنان لأن بيهن رح يكون مصري».


حاولت الانتحار لأن
والدة زوجها طالبتها بالتنازل عن الدعوى
بعدها، صار الضرب أمراً عادياً في يوميات العائلة. وليس مبالغاً به عندما تقول ملاك إنها ولدت طفلها الأول قبل الأوان، بسبب هذا. وفي يوميات الجيران «في شارع الجاموس»، صار الأمر عادياً أيضاً. أن ترى الجارة الوحش يجرجر ملاك من شعرها من الطبقة السادسة حتى الطبقة الأرضية، ولا تتدخل لأنه سيقول لها حينها هذه «أمور عائلية». أن تسكت أم الشابة لأن من يضربها زوجها أمر عادي أيضاً. أن يضربها حتى الإغماء، ثم يوقظها بالماء في حوض الاستحمام ليكمل ضربها أمر عادي أيضاً. أن يقنعها بالذهاب إلى السوق وأن تعود ولا تجد طفليها أمر عادي أيضاً. أن يبيع البيت بكل ما فيه، حتى ثياب طفليها. كله يصير عادياً. مملاً في مجتمع «الفحول».
كل ذلك حدث. وأكثر منه، حيث عاشت الأم وحيدة 7 أشهر، فيما طفلاها في مصر مع الوالد، لكنها، فعلت ما رأته مناسباً «تقدمت بشكوى متهمة إياه بخطف الطفلين والضرب». وعندما علم بأمر ما فعلته، صار يتودد إليها «اتصل بي كي نعود عائلة واحدة، وعندما لم أوافق قال لي إن ابني مريض، وقد لا أراه بعد اليوم، عندها عقدت العزم على السفر».
هناك، فعل الوحش ما لم يفعله في حي الجاموس. هدد زوجته بالقتل إن لم تتنازل عن دعواها. وعندما فعلت ذلك، اتخذ قراره بقتلها. ضربها بسكين حاد، لكنها استطاعت النفاذ من بين يديه. هربت إلى منزل أقربائه. اختبأت تحت «درج البناية»، وكاد قلبها يتوقف عندما سمعت دبيب قدميه فوقها... وبعد ساعات، استيقظت في مستشفى بلا ذاكرة. تعرفت إليها ممرضة هناك، كانت قد أخبرتها سابقاً بقصتها. أخذتها إلى منزلها. بقيت 9 أشهر بلا ذاكرة، وعندما تذكرت، عاودها الخوف من الوحش ومن عائلتها «خفت ما يرجعوني لوليد». بقيت ثلاثة أشهر في خوفها، إلى أن جرؤت على التحدث إلى أختها «على الواتس آب». يومها، «حكيت بمعدّل 300 صفحة»، تقول المحامية بشرى الخليل، التي تتابع قضيتها اليوم أمام القضاء، «بتهمة محاولة القتل والتهديد والإيذاء بالضرب الشديد». مع ذلك، لم تقتنع بالعودة إلى لبنان، إلا بعد عام وتسعة أشهر. تتذكر الخليل تلك العودة، وعندما خرجت للمرة الأولى من البيت «إلى مكتبي، يومها طلبت مني أن أقفل الباب بالمفتاح وأغلق الستائر». لم تكن ملاك تجلس «مثلنا على الكرسي». كانت تضم يديها إلى صدرها وتنام، كأنها في وضعية «الضرب».
اليوم، عادت ملاك شخصاً شبه طبيعي. يبتسم ويتكلم، لكن ثمة نواقص كثيرة: ذاكرتها التي انطفأت بسبب الألزهايمر «والعاهة الدائمة في وجهها بين الفم والخد، الشلل في أعصاب الوجه، ونقاط الدم الثلاث في رأسها التي تشبه تلك النقاط التي توجد عادة في رأس ملاكم اعتاد تلقي الضرب». هذا ما ورد في تقرير الاختصاصي في الجهاز العصبي. اما ما لم يرد في التقرير، فهو أن ملاك حاولت الانتحار لأن والدة زوجها تطالبها بالتنازل عن الدعوى التي قدمتها ضد زوجها، مقابل رؤية طفليها. وهي ترفض ذلك لأنها تعرف أنه سيخرج «ليقتلني».
قد تخرجه ملاك من السجن في وقت لاحق، لأنها أم. لأن صورة «ثياب طفليّ التي بقيت معلّقة في الخزانة» تؤلم ذاكرتها. وهذا كافٍ، لكنها، حينها ستفعل ما فعلته رلى يعقوب.