كانت اللحظة مليئة بالتساؤلات والتحديات في آن واحد: إنتاج العراق يتخطى عتبة 2.5 مليون برميل يومياً، للمرة الأولى منذ إطاحة الرئيس صدام حسين. تزامنت هذه اللحظة التي سُجلت عام 2011 مع إتمام انسحاب الجيش الأميركي، وفقاً لجدول زمني صارم. منذ هذا التطور، بدا العراق بلداً هجيناً منسياً يمضي على طريق غريبة. ففي الوقت الذي تعززت فيه الإيرادات النفطية، تفسّخت أواصر الصلة بين المجموعات الدينية والإثنية، التي يُفترض أن تستفيد بالتساوي من هذه الثروة. ثروة كانت، ضمنياً، السبب المباشر للغزو؛ الغزو نفسه الذي عزّز مشاعر الغضب الوطني، وأشعل فتيل خسائر اقتصادية واجتماعية قد تمتد طويلاً.

وأصبحت هواية الباحثين إسقاط الأرقام في معادلات مباشرة، بهدف الوصول إلى دلالات سياسية وإثبات وجهات نظر معينة. مثلاً، بين عامي 2010 و2013 تضاعفت إيرادات الحكومة العراقية من الإنتاج النفطي وبلغت مئة مليار دولار؛ لو وُزّعت الزيادة وحدها على العراقيين، لتُرجمت 10 آلاف دولار لكل عائلة. هذا المبلغ كان بإمكانه أيضاً إطلاق نهضة اقتصادية اجتماعية في أحياء بلاد الرافدين الشيعية والسنية والمسيحية، في مثلث الموصل – الرطبة – البصرة.
أكثر من ذلك، لو أن الأموال التي تدفّقت على الخزانة العامة صُرفت استثمارياً على نحو عاقل، لساهمت مثلاً في محو انجاز مشروع إحياء الكهرباء الذي دمره الغزو، والذي كلّف عشرات مليارات الدولارات ونتيجته كانت متواضعة: مستوى التغذية الذي كان سائداً أيام صدام حسين.
اليوم، يشعر العراقيون الذين يتمتع ربعهم فقط بإمدادات الصرف الصحي النظيف، بالغبن وببعد الأموال عن احتياجاتهم اليومية.
فلنترك المقاربة الشعبوية لكيفية إنفاق المال العام جانباً. العراق بلد تتناتشه المصالح بامتياز: الشيعة يتعلقون بالنفوذ المستجد نتيجة الأكثرية الديموغرافية والأوضاع الجيوسياسية؛ جزء من السنّة يرفض الاعتراف بالحيثية الشيعية المستجدة، وجزء آخر يشعر بالغبن، بعدما دعم الحكومة بالانتفاض على الإرهاب (أي صحوات القبائل العراقية منذ عام 2008)؛ الأكراد يعيشون الاستقلالية شبه التامة، منذ نصف عقد تقريباً.

غنى العراق بالنفط
يُسهّل عودته إلى طريق النمو بعد الرصاص والتفجيرات
طبقاً لهذه الصورة، بدت البلاد مفتّتة اجتماعياً قبل بدء الزحف العاصف بقيادة الدولة الإسلامية في العراق والشام. وهو وضع محزن نظراً للإمكانات الهائلة التي يُمكن أن تتمتع بها هذه الأمة.
يُعد العراق البلد الأهمّ لمستقبل مجموعة الدول المصدرة للنفط، «أوبك». فهو سيكون مسؤولاً عن 60% من نمو إنتاج هذه المجموعة حتى عام 2019، حين سيرتفع ضخه اليومي بواقع 1.28 مليون دولار.
على المدى المتوسط، كانت التوقعات الأخيرة لوكالة الطاقة الدولية تفيد بأنّ الإنتاج سيبلغ 3.87 ملايين برميل يومياً في عام 2015. وبالاستناد إلى سعر النفط المرتفع الذي سجلته السوق بعد «اجتياح الموصل» وهجر أكثر من خمسين ألف عنصر من الجيش العراقي لمواقعهم، فإنّ قيمة هذا الإنتاج تبلغ 450 مليون دولار (يومياً).
المكاسب التي تحققها الدولة الإسلامية قد تمتد لتشمل ضربات في الجنوب الشرقي الغني بالنفط. إذا نجحت هذه الضربات فقد تؤدي إلى قطع إيرادات الحكومة المركزية من إنتاجها النفطي، ما قد يؤثر في الحفاظ على سلطتها وما لها من فاعلية في الإدارة.
السيناريو الأسوأ يتمثل في التهديد المحيط ببغداد نفسها، مع العلم أن سقوط العاصمة ذات السبعة ملايين نسمة مستبعد جداً، لكن أية مواجهات أو اضطرابات تحصل هناك من شأنها التأثير في إيصال النفط إلى السوق وفي العمليات اللوجستية.
وخسارة النفط العراقي ليست سهلة على المستويين الإقليمي والعالمي، فأي تراجع بمعدل الثلث في إنتاج نفط العراق يؤدي إلى تبخر قدرة الإنتاج الاحتياطي لدى مجموعة «أوبك»، وإلى تجهيز الاحتياطات الاستراتيجية في البلدان المتقدمة.
على الأرجح سيجري احتواء التقدم الميداني لـ«الدولة الإسلامية» والجماعات الأخرى التي انضوت تحت رايتها، بعدما كان عديدها لا يتجاوز 15 ألف مقاتل، لكن لن يكون العراق جنّة العيش المشترك طبعاً.
ويجب ألا ننسى أنّ صراعات العراق حالياً، ليست سوى امتداد لنزاعات تاريخية إقليمية ودولية، عززتها سنوات الحرمان والظلم والعقوبات الغربية، التي سببت وحدها ما يقارب نصف مليون وفية بين الأطفال.
الصراع القائم حالياً قد يؤدي بسهولة إلى تفكك البلاد وتعمق الفجوة بين مكوناتها. إنه صراع أهلي يُشبه صراعات كثيرة عاشتها وتعيشها بلدان المنطقة، حيث تهدمت اقتصاداتها وتحطمت أحلام الاستقرار والازدهار.
مثلاً، في لبنان على الرغم من أنّ الناتج المحلي الإجمالي سجّل في عام 2010 المستوى الذي كان عليه عشية الحرب الأهلية، إلا أنّ حصة الفرد من الناتج لا تزال دون ما كانت عليه في الأيام الذهبية، برغم مرور 20 عاماً (مع التأكيد أن هذا المؤشر لا يُعدّ شاملاً من المنظور التنموي).
في دراسة أعدتها أخيراً الباحثة رندا صعب لمصلحة صندوق النقد الدولي، قاربت التأثير الاقتصادي للنزاعات في الشرق الأوسط. وتبين أن غنى البلد بالنفط، يُسهّل عودته إلى طريق النمو بعد الرصاص والتفجيرات.
شملت الدراسة إضافة إلى لبنان، الكويت والعراق. وتبين بخلاصتها أن عودة الناتج المحلي العراقي – أي حجم الاقتصاد - إلى ما كان عليه قبل الغزو تحققت بعد عام واحد فقط من غزو البلاد، أما حصة الفرد من الناتج، فتعافت بعد مرور خمس سنوات، «لكن برغم النمو القوي ضعفت الإدارة الاقتصادية نتيجة تدهور المسار السياسي والأوضاع الأمنية».
لكن هذا كان أيام الغزو، أما أيام «داعش»، فمختلفة. فقد بدأت المجموعات المتطرفة بتأسيس «إمارة» قاعدتها الأنفاق التي يصعب إزالتها. مشهدٌ تراقبه بقلق العائلات العراقية، التي يفوق عددها خمسة ملايين، بينها النازح وحامل سلاح والخائف على مستقبل أولاده، في بلد تدرّ ثروته النفطية وحدها نصف مليار دولار يومياً، ويفوق حجم اقتصاده 210 مليارات دولار. إنه مشهد تفتت بلادها وإشعال ثروته.




جغرافيا الأمر الواقع

ليس تشرين الأول 2012 بعيداً جداً عن الذاكرة. حينها طرحت وكالة الطاقة الدولية آخر سيناريوهاتها للطلب على الطاقة خلال العقود المقبلة. بالاستناد إلى أحدها، سيزيد إنتاج العراق من النفط الخام بواقع خمسة ملايين برميل يومياً، وسيكون هذا التحول المساهم الأول في تأمين الطلب الإضافي على الطاقة في العالم؛ أما خلال العقد الحالي، فإنّ العراق سيكون مسؤولاً عن حوالى 45% من النمو المتوقع في الإنتاج عالمياً. اليوم يتغير المشهد كلياً، تعود الدماء للسيل على الطرقات، وبدأت الطروحات الخاصة بكيفية استقرار اقتصاد الحرب في بلد يفوق عدد سكانه 30 مليون نسمة. يتحدث المحللون، عن ارتسام جغرافيا الأمر الواقع بين المناطق الشيعية والسنية. صحيح أن هذه الخطوط التي تقسم المناطق لن تؤثر في الإنتاج أساساً في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، على المديين القصير والمتوسط، غير أنها قد تبدأ بأذية الخزنة النفطية إن عبر العمليات الانتحارية أو قطع طرق الإمدادات...