هي «شر البليّة». لكنها لا تُضحك. في اليوم التاسع والعشرين من حزيران 2014، شهد العالم إعلان «الخلافة الإسلامية»، وبويع أبو بكر البغدادي «خليفة للمسلمين». ليس في الأمر نكتة سمجة، ولا مدعاة للهو. حدث كهذا لم يقع سوى مرتين طوال 1400 عام خلت.يحمل البغدادي وعداً بتحقيق الحلم التاريخي بإقامة دولة، لا تكون على شاكلة دولة بني العباس، ولا على طراز دولة بني عثمان. هي النسخة «الأصلية» من مملكة آل سعود ـــ آل الشيخ.

دولة «مطاوعة» ومجاهدين، بلا دنيا القصور والتبعية لـ«الكفار». وتجربة «أمير المؤمنين» البغدادي لا تشبه تجربة الملا عمر. فالأخير، رغم ما يُحكى عن سلطانه المطلق في إمارة الطالبان الأفغانية، بقي «أميراً» صورياً في أذهان مجاهدي العالم. سلبه أسامة بن لادن وهج الرمز. بدا الملا عمر كملوك العباسيين الضعفاء بعد المتوكل، في ظل حكم الوزراء. وزعيم «القاعدة» لم يحمل مشروع حكم راهن. كانت الحاكمية هدفه المؤجل، فيما الجهاد هو الآني.
أبو بكر البغدادي يرفع الرايتين في آن معاً: حكم الشريعة، والجهاد. ولأول مرة، منذ سقوط الخلافة العثمانية، تُعلن الدولة الإسلامية بلا حدود رسمها «الكفار» و«عملاؤهم». دولة حدودها «دماء الشهداء». وهذه الراية محور جذب لآلاف الراغبين بالجهاد حول العالم. ولا غرابة معها في رجل يأتي من أقاصي أندونيسيا، أو من القوقاز، بصحبة عائلته، للقتال في سوريا أو في العراق، بهدف «إعلاء راية لا إله إلا الله». جنود البغدادي ليسوا هواة، بل مقاتلون أشداء وذوو عزيمة. ورثوا تجارب أسلافهم، الاستخبارية والعسكرية، منذ أفغاستان الأولى (ضد السوفيات)، ثم الجزائر، فالقوقاز، ثم أفغانستان الثانية (سيطرة الطالبان على كابول)، ثم أفغانستان الثالثة (الاحتلال الأميركي ومقاومته)، وصولاً إلى احتلال العراق وما تبعه.

الرعب الذي
ينصرها يعوّض جزءاً من نقص عديدها

القوة العددية للعراقيين المناهضين لـ«الخلافة» لا تكفي. أصلاً، ليست «دولة البغدادي» بنت «زماننا» لينطبق عليها «منطق أشيائنا». الرعب الذي ينصرها يعوّض جزءاً من نقص عديدها.
يصعب الحديث عن قوة كهذه من باب تآمري بحت. يمكن القول إن السعودية وأميركا وقطر وتركيا استفادت منها لمنع المحور المقابل من التنعم باستقرار في العراق. ولا شك في أن السعودية، ومشيخات الخليج الأخرى، غضّت النظر عن عمليات تمويل لـ«الدولة» قام بها «أفراد». ولم يقفل آل سعود بعد مزراب الدعم عن جماعات سورية وعراقية تتسرّب أموالها وأسلحتها وأفرادها إلى «داعش». كذلك استفاد التنظيم من فتح الباب واسعاً أمام القتال ضد النظام في سوريا منذ عام 2011، تماماً كما استفاد تنظيم «القاعدة» من الدعم الأميركي ـــ السعودي ـــ المصري للمقاتلين في أفغانستان ضد السوفيات. ولا مبالغة في القول إن أجهزة استخبارات تحرّك مجموعات، وربما قادة في «دولة الخلافة». لكن الركون إلى المؤامرة وحدها لا يكفي لسبر ما وراء الظاهر من صورة التنظيم/ الدولة.
قصارى القول إن دولة البغدادي ليست حدثاً عابراً. التندر عليها لا يكفي لتحطيم صورتها. والاستخفاف بها سيضع المشرق برمّته أمام معضلة وجودية. ثمة كثير شبه بين أحوال الإقليم حاضراً، وما كانت عليه قبل نحو 8 قرون، يوم سقطت بغداد تحت حوافر خيل المغول. التاريخ لم يتكرر. لكن «المهزلة» جعلت أبناء هولاكو يقفون من جديد على أسوار عاصمة الرشيد.