يكاد البحث عن مركز الحزب الشيوعي في البترون يشبه البحث عن إبرة في كومة قش، أو هكذا قد يبدو الأمر. شاب على قارعة الطريق، أمام محله، نستنجد به، فيشير الى أحد المباني: «هناك حيث الصيدلية». أمام الصيدلية، عبثاً نبحث عن لوحة تشير الى مكان المركز. صبية تتبرّع للمساعدة وتسأل عمّ نبحث. تدلّ الى أعلى البناية بثقة: «البيت يقع هنا». قبل أن نتنفّس الصعداء يتبين أننا أمام مكتب مفوضية حزب الوطنيين الاحرار في البترون! أساساً، ليس مركز الحزب وحده «الغريب» عن أبناء المدينة، بل اذاعته أيضاً. بمجرد عبور حاجز المدفون، يضعف ارسال اذاعة «صوت الشعب»، ويتبدّل البث على الموجة، وكأنك لم تصل الى منطقة «مهمة» شيوعياً، قدمت للحزب رجالات ذوي ثقل، وساهمت نضالات أبنائها في تحسين أوضاع العمال والنساء.
في منزلها البتروني، تغرق السيدة السبعينية الضئيلة في كنبتها التي تبدو ضخمة. لها ابنان، قاتل أحدهما في صفوف جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول). تنتفض بقوة إذا ما انتقد الحزب الشيوعي أمامها. أيام «الزمن الجميل» ما زالت راسخة في ذاكرتها. تلمع عيناها وهي تروي عن نضال النساء الشيوعيات في بلاد البترون من أجل اقرار قانون يسمح للمرأة بممارسة حقها في الانتخاب. «سيراً على الأقدام، زرنا قرى البترون والكورة وبشري. طرقنا كل الأبواب، وحاولنا اقناع الأهالي بالتوقيع. كان التجاوب معنا كبيراً ولافتاً». عام 1952، صدر القانون، ففرحت «شيوعيات» البترون لأن نضالهن أثمر.
تطيل الحديث عن «الزمن الجميل» وأمجاد الماضي من دون أن تعلّق على الوضع الحالي للحزب. هي أيضاً ربما لا تعرف أين يقع المركز، خصوصاً أنه منذ بداية «الوجود الشيوعي» في المنطقة، وحتى تشرين الثاني من عام 2012، تاريخ افتتاح المركز، لم يكن لشيوعيي البترون سقف رسمي يؤويهم. كانت منازل «الرفاق» تحتضن الاجتماعات الحزبية، والسبب الاساسي، بحسب المسؤول سمعان بو موسى «غياب الامكانات المادية، وكون الحزب ظل في البترون ملحقاً بقسم الكورة حتى أوائل التسعينيات»، اضافة الى «هجرة الشيوعيين نتيجة الاضطهاد الذي عانوا منه واتسام عملهم بالسرية خلال الحرب».
لم ينتظر البترونيون تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني عام 1924. فقد بادر «خيرالله خيرالله ويوسف الحويك الى تأسيس حركة شيوعية أممية قبل ذلك بسنوات»، استناداً الى الطبيب غسان فاضل. براعم الشيوعية في البترون بدأت تتفتح أوائل الاربعينيات، «وكانت أكبر مجموعة في حامات حيث وزعت قرابة 112 بطاقة، وتمددت في اتجاه المنطقة الساحلية، تحديداً البترون والهري. ومن كفرحلدا في اتجاه كفور العربي». في البداية كان وجود الشيوعيين يتركز في الجرد، «كون الاكثرية كانت تنتمي الى طائفة الروم ما شكل رابطاً معنوياً طبيعياً مع الاتحاد السوفياتي في حينه». يتذكر فاضل الطبيب رشيد معتوق من كفرحلدا الذي كان «يمارس عمله في العراق ويعود بعد أن يجمع المال لمداواة الناس في المنطقة من دون مقابل». في منتصف الأربعينيات تحول العمل الحزبي سرياً، وشهدت فترة الخمسينيات الانتشار الاكبر، بسبب «وجود مثقفين أكثر وأشخاص أمثال الأب الشيوعي طانيوس منعم ومنصور صوما الذي جاء من أنطلياس واشترى أراضي هنا وأصبح من شيوعيي البترون».

لا يوجد تواصل
سياسي مع «القوات» الذي لا يلبي دعواتنا

يروي فاضل أنه في تلك الفترة «كثرت الاتهامات التي لفقت ضدنا. خاف الناس منا ومنع الاهالي أولادهم من معاشرتنا متذرّعين بإلحادنا». لم يسلم الشيوعيون من ملاحقات القوى الامنية، «الطلاب طلبوا الى التحقيق نتيجة اضراباتهم، والرفيق يوسف شيخاني أوقف لانه طالب بالكهرباء». كان ذلك قبل أن يفتك بهم الركود، «بعد أن توقفت المؤتمرات الحزبية طيلة 25 سنة، وبسبب الانقسام بين خالد بكداش في سوريا والقيادة في لبنان». تغلغلت في البيئة البترونية تيارات نتجت من هذا الانقسام، وصولاً الى المؤتمر العام 1968 «الذي أعاد ترتيب الصفوف». في السنة التالية، أصبحت هناك قيادتان «فرعية الجبل وفرعية الوسط ـــ الساحل، مع وجود لجنة وصل بينهما، وذلك لصعوبة التنقل بين المناطق في تلك الفترة». المرحلة الثالثة تكوّنت في البترون المدينة، خلال فترة تسلم جورج حاوي للامانة العامة. تأسست ثانوية البترون، «حيث أصبح للحركة الطلابية ملعب تتحرك فيه، خصوصاً مع تأسيس اتحاد الشباب الديمقراطي عام 1972. فأصبح الحزب الاقوى». قبل اغتيال رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط، «كان ميزان القوى يميل لصالح الحركة الوطنية. في 1976، بعد اغتياله اجتاح الجيش السوري مناطقنا». يقول الطبيب فاضل إن مجازر حصلت بحق الشيوعيين وخصوصاً في حامات. لا يعرف من الذي نفذ، «ولكن القرار اتخذه (الوزير الكتائبي السابق) جورج سعادة بغطاء سوري».
مركز «الشيوعي ـــ البترون» متواضع وصغير. جدرانه تملأها صور شهداء الحزب واعلانات المحاضرات التي نظمها وينظّمها. الوحيد الذي تتكرر صوره هو «أبو أنيس». في قاعة المحاضرات، مكتبة صغيرة تضم عدداً من الكتب. داخل مكتبه، ينفث أبو موسى سيجارته من نوع «سيدرز» وهو يخبر عن الحزب ما بعد الثمانينيات. يعتذر عن عدم حفظه التواريخ، «فأنا هاجرت الى فرنسا بعد مضايقات عدة، وهناك تعرفت الى هذا الفكر السياسي الذي تهجّرت بسببه». يتذكر رجالات لعبوا دوراً في الحراك اليساري: رشيد معتوق ورشيد يوسف والاب منعم والدكتور الشاعر ميشال سليمان ويوسف وضاهر ريشا وحنا يعقوب. الفترة التي يذكرها بو موسى جيداً، تمتد حتى عام 2004 «وهي مرحلة استنهاض الحزب وتحول اللقاءات والنشاطات الى علنية». الحزب موحد ومنظم، «الاجتماع الدوري أهم من الحياة اليومية للملتزمين. في حين أننا اليوم نفتقد للروح النضالية». قدمت البترون شهيدين سقطا في صفوف جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية «جمول» وهما شقيقا المدير العام السابق لقصر الأونيسكو الراحل أنطوان حرب. يتذكر بزهو كيف تمكن مرشح الحزب غسان الاشقر في الانتخابات الفرعية في الشمال عام 1994 من «الحصول على 1300 صوت في مواجهة جميع الاحزاب وضغط القوات السورية التي حاولت منع الناس من الاقتراع له».
عادت الخضات لتهز أركان «الشيوعي» (في البترون كما في كل لبنان) عام 2004، مع بروز الخلافات الداخلية «واتجاه نديم عبد الصمد والياس عطالله وأديب نعمة الى تشكيل معارضة. البترون وقفت الى جانبهم من منطلق الضغط من أجل اصلاح الحزب». كان الخلاف مع القيادة «على كيفية التعاطي مع الحزبيين وأداء المكتب السياسي». يتذكر بو موسى اجتماعاً في منزله ضم اليه، نصر فرح وحسام جرجس وطوني فرنسيس والياس عطالله. كان الحديث يتركز حول شكل المعارضة، وأعطاها فرنسيس وصف «المعارضة الحقيقية التي يجب أن تنطلق». بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، دعا الشيوعيون المعارضون الى اجتماع في المنية. الفكرة كانت قد توضحت أكثر، فتقرر أن «تكون هناك حركة انشقاقية يسمونها اليسار الديمقراطي». اعترض على هذا الطرح الطبيب الياس غصن، في حين أيده مسؤول الحزب في البترون في حينه حسام جرجس. انسحب الجو المعارض على جرد البترون، «الركن الاساسي في الحزب».
حالياً، ركيزة الحزب هنا تتراوح أعمارهم بين الخمسين والسبعين. هم باقون في الحزب لانهم يأملون خيراً من القيادة المركزية، «التي عادت لتتواصل مع الحردانين وتحاول تحسين الاوضاع». التزام الجيل الجديد ضعيف جداً: «الشباب يميلون الى زعامات تتبنى الخطاب الطائفي». على الرغم من وجود 132 بطاقة حزبية فقط «الا أننا نعتبر الانشط في القضاء على مستوى الندوات الثقافية والنشاطات الاجتماعية»، واضافة الى المنتسبين هناك «جمهور كبير يتعاطف معنا ويكن لنا الاحترام». من الامور التي تعيق عملهم غياب «الحس الحزبي والالتزام». يأسف بو موسى لوجود عدد من الشباب الذين ينحدرون من عائلات يسارية «يختارون زعماء طائفيين لمجاراة الوضع القائم». ففي ضيعته عبرين مثلاً، لا توجد الا «بطاقتان» شيوعيتان: «ابنتي ليال وأنا». التواصل مع بقية الاحزاب جيد، «باستثناء «القوات»، لا وجود للتواصل السياسي معه والسبب أننا ندعوه لمشاركتنا ولكنه لا يلبي». أما بالنسبة للحزب الشيوعي «فلا ملاحظات على أداء القيادة». هم مرتاحون أنه قانوناً «لم يعد يحق للرفيق خالد (حداده) الترشح وهو تعهد ذلك أيضاً». يرفضون الاصطفاف بين فريقي الثامن والرابع عشر من آذار، «نحن مع الاحزاب الوطنية». ليس صحيحاً ما يقال إن «الشيوعي مع النظام السوري فنحن ألد أعدائه». ولكن استبداله لا يتم «من خلال الحالات الدينية المتطرفة. هذا ما نرفضه». يقول الطبيب الياس غصن أن الحزب في البترون «في مرحلة الحفاظ على الوجود والبحث عن امكان الانتشار أكثر». الموقف مع بقية الاحزاب يتقاطع بحسب موقفها من «انشاء دولة علمانية، التغيير الديمقراطي، ونقل الصراع من المحاور العسكرية الى السياسة».