فاجأ رئيس بلدية طرابلس نادر غزال أهل مدينته الأسبوع الماضي، عندما أصدر تعميماً يعتبر الأول من نوعه الذي يصدره أي رئيس لبلدية عاصمة الشمال، بطلبه منهم «عدم الإفطار علناً في شهر رمضان، مراعاة لمشاعر الصائمين»، قبل أن يتراجع عنه تحت وقع الاعتراضات على قرار كهذا لا يعد من صلاحيته ويسيء الى نسيج المدينة الاجتماعي.
الانتقادات الكثيرة التي وصلت إلى أسماع غزال بهذا الموضوع كانت كثيرة، أبرزها أن «عليه أن يهتم بشؤون المدينة المكلف بها، والاهتمام بمشاريعها ونظافتها وإدارة كل مرافقها بشكل جيد، وليس أن يوجه نصائح أو يصدر فتاوى».
الأصداء السلبية لتعميم غزال الذي ضجّت به مواقع التواصل الاجتماعي في طرابلس، دفعت غزال للمسارعة إلى الإعلان أن التعميم أصدره «بناء على طلب ميمون من دار الإفتاء في طرابلس»، معتبراً أنه «تمنٍ وليس أكثر وأن البلدية ليس من شأنها إيقاف من يأكل ويشرب في الشارع».
ومع أن تعميم غزال وتراجعه عنه لم يكن له أي مفعول خارج السياق في طرابلس، فإنه ترك أثراً سلبياً وواضحاً على صورة المدينة خارجها، اذ سلطت بعض وسائل الاعلام الأضواء على تعميم غزال، وأظهرت المدينة وكأنها قلعة مغلقة تقف بالمرصاد وبحدة لمن يقدم على الإفطار علناً فيها، ما أثار هواجس كثيرة، خصوصاً لدى أبناء الطوائف الأخرى الذين عزف كثيرون منهم عن زيارة المدينة في رمضان، وتخيلوا أنه سيقام عليهم الحد إذا شوهدوا يأكلون ويشربون في الشارع خلال شهر الصوم.
لكن جولة خلال اليومين الأولين من رمضان في شوارع طرابلس تدحض كل هذه المزاعم والتخيلات، وتظهر أن طرابلس لا تعيش تطوراً غير طبيعي هذه الأيام، وأن الواقع على الأرض هو عكس ما يُصوّر.
فأغلب المقاهي في منطقة البولفار فتحت أبوابها كالمعتاد، وروّادها في الداخل إما يشربون القهوة أو يدخنون بشكل طبيعي، وإن لوحظ أن عدد زوار ورواد هذه المقاهي قد تراجع نسبياً منذ بداية شهر رمضان، وهذا امر طبيعي يحدث كل عام.
ينفي أحد العاملين في هذه المقاهي أن يكون أحد تعرّض لهم أو طلب منهم إغلاق المقهى خلال شهر رمضان، ويرد مستغرباً السؤال من أساسه: «ليش مين إلو علاقة فينا؟».

تعميم غزال ساقط عملياً ولم يتغيّر شيء عن السنوات الماضية

في مقهى مجاور تبدو الصورة مشابهة، رواد المقهى في داخله يملأون نحو نصف المقاعد في فترة الصباح، لكن صاحب المقهى، بحسب أحد العاملين فيه، «يتبع منذ سنوات عدة عادة عدم تقديم المأكولات والمشروبات للزبائن الذين يجلسون على رصيف المقهى، والاكتفاء بذلك لمن هم داخل المقهى، مراعاة لشهر الصوم».
هذه المراعاة تأخذ أشكالاً أخرى في قسم كبير من مقاهي ومطاعم المدينة، فإذا كان بعضها أقفل أبوابه خلال النهار لهذه الغاية، واقتصر عمله على فترات المساء تحديداً بعد الإفطار حتى السحور، فإن أغلبها لجأ إلى «حيلة» أصبحت منتشرة في طرابلس، ومعتادة. هذه «الحيلة ـ المراعاة» تتمثل في إسدال المطاعم ستائر على نوافذها حتى لا يرى الصائمون المارون أمامهم في الشوارع أناس يأكلون ويشربون، وبعضهم في المطاعم الشعبية التي تقدم الفول والحمص والفتة وغيرها، اكتفى بإلصاق أوراق الصحف على الزجاج الخارجي بشكل فوضوي.
غير أن هذه المراعاة ليست عامة، ففي ساحة التل الرئيسية في المدينة، وقرب ساعتها الشهيرة تحديداً، بقيت مطاعم الوجبات السريعة فاتحة أبوابها كالمعتاد، وبقي عمال هذه المطاعم يتابعون عملهم كالمعتاد في تحضير سندويشات الشاورما والفلافل وغيرها لزبائن يتناولونها أمام المارة بشكل طبيعي، وهو أمر انسحب أيضاً على باعة القهوة والكعك الجوّالين، مع تراجع ملحوظ في عدد زبائنهم.
هذه الاجواء توحي ان قرار رئيس بلدية طرابلس بقي بلا صدى عملياً في طرابلس، وهو ما دفع الشيخ إبراهيم الصالح، إمام وخطيب مسجد عثمان بن عفان في الميناء، للتعليق لـ»الأخبار» عليه بقوله إنه «من غير المستحب فرض التدين على الآخرين، من قبل أي طرف»، معتبراً أن الدين «يحضّ على الالتزام الذاتي وليس فرض الالتزام، لأن فرض الالتزام بالقوة يسقط فكرة التديّن»، موضحاً أن «هناك فرقاً كبيراً بين الإلزام والالتزام».
عدا عن ذلك، فإن حركة الدخول والخروج من وإلى طرابلس يومياً، من قبل آلاف المواطنين الذين يزورونها لأغراض مختلفة، وقسم كبير منهم من طوائف مسيحية، يجعل تعميم غزال ساقط عملياً، ما دفع أحد المواطنين للقول: «نحن في مجتمع مختلط، ولا يمكن لأحدنا فرض رأيه على الآخرين، وإذا طلب أحدهم فرض المراعاة في طرابلس اليوم، فقد يأتي أحد ويطلب فرض المراعاة في جونية في أيام صوم المسيحيين!».
غير أن ما يثير قلق من لا يصومون، سواء كانوا مسلمين أم غيرهم، وفق قولهم، هو «المناخ الذي يسود طرابلس حالياً، وهو لم يكن موجوداً بهذا الشكل أيام حركة التوحيد الإسلامي في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كان تأثيرها محصوراً داخل المدينة، أما اليوم فإن هذا المناخ يعمّ الشرق الأوسط كله، وهذا ما يقلق».