الرحلة في «البولمان» من بيروت الى مدينة الرقة تستغرق نحو 12 ساعة. قبل ثلاثة أعوام، كانت لا تزيد على ست ساعات. عمّال سوريون شبّان من مختلف مدن المحافظة وقراها يحلمون برؤية أهاليهم. بينهم كان محمد عبدالله، متخرّج في كلية الاقتصاد، الذي يعمل محاسباً في ضاحية بيروت. لم يزر الرقة منذ عامين، يتابع أخبارها عبر تواصله مع الأهل والأصدقاء وشبكات التواصل الاجتماعي. يروي محمد لـ«الأخبار» عن رحلته إلى مسقط رأسه بعد عامين من الهجرة: «استقبلنا عناصر الدولة الإسلامية عند أول حاجز بالتحية. اللهجة السعودية حاضرة بقوة، يتأكدون من عدم وجود عسكريين بين المسافرين، ومن أن النساء ملتزمات بوضع النقاب».
مسافة قصيرة تفصل حاجز الجيش السوري وقوات الدفاع الوطني عن حاجز «جبهة النصرة» سابقاً و«داعش» حالياً. تنقطع الاتصالات مع دخول الحدود الإدارية للمحافظة.
يتابع محمد: «لدى دخول المدينة، تتبدّى واضحة آثار الدمار في بعض المباني الحكومية والمنازل».


«شوارع ثورية»

السيارات في المحافظة تعمل على مشتقات النفط الخام المكرر يدوياً. نسي الناس متى دخلت آخر شحنة محروقات قادمة من مرفأ طرطوس. يوضح محمد كيف شعر بالحرج وهو يطلب من سائق سيارة الأجرة أن يوصله إلى عنوان منزله: «كيف سأقول له أوصلني إلى أوتوستراد الشهيد باسل الأسد؟ وإن قلت له إلى شارع العقيد حسين الهرموش كما أطلقت عليه كتائب الجيش الحر أيضاً، فلن يعرفه».
السيارات في
المحافظة تعمل
على مشتقات النفط الخام المكرر يدوياً


لاحظ سائق سيارة الأجرة حيرة الشاب، وبعد أسئلة عدة استفسر فيها عن وجهة محمد، قال له باللهجة الرقيّة: «شبيك يا زلمة، قول من الأول إنك رايح على شارع باسل، ما بدها كل هاللبكة، أطلع... أطلع رح وصلك».
حاولت كتائب «الجيش الحر» وناشطو الحراك المدني تغيير أسماء الشوارع في مدينة الرقة. أطلقوا على شارع تل أبيض، الأشهر في المدينة، اسم «شارع الشهيد علي البابنسي». إلا أن اسمه الشعبي القديم (تل أبيض) بقي سارياً على ألسنة الناس. أصلاً، قلة تعرف أن اسمه في سجلات مجلس المدينة هو «شارع القنيطرة». أما «شارع الشهيد باسل الأسد» فقد بات «شارع العقيد حسين الهرموش»، و«مستديرة الجلاء» أو «الساعة» أصبحت ساحة الحرية، فيما تحوّلت «ساحة السيد الرئيس» الى «ساحة الشهداء»، ويهرب الأهالي من الطرفين بتسميتها «ساحة الإطفائية» لوجود فوج إطفاء فيها. وقد سبق أن دهن ناشطون مدنيون بعض النصب في المدينة بألوان «علم الثورة»، إلا أن «الدولة الإسلامية في العراق والشام» أزالت «علم الكفر» هذا، ورفعت راياتها في كل مكان في المدينة.


«خدمات إسلامية»

المساء هو الوقت المفضّل لدى أهل الرقة للسير في شوارع هادئة، أو الجلوس في المقاهي. لا توجد مظاهر مسلحة في المدينة، ولا حديث عن سرقات أو انتهاكات، وتصل السجائر والمشروبات الروحية إلى المدينة تهريباً، إلا أن أسعارها تضاعفت.
ويقول علاء جبران، من أهالي الرقة الذين زاروها أخيراً، لـ«الأخبار: «لم تعد المدينة تعاني من إشغالات الأرصفة بعدما شيّدت الدولة الإسلامية سوقاً شعبياً وسط المدينة، وجهزته ليضم أصحاب البسطات والباعة الجوالين، ومنعت انتشار هذه الظاهرة في الشوارع». ونقلت مكان سوق الجمعة الشعبي إلى جانب سور الرقة الأثري، وجعلته يوم الخميس بدلاً من الجمعة كي لا يمنع الناس عن أداء صلاة الجمعة في المسجد.
كما أحدثت مكتب «حماية المستهلك»، وفرضت على أصحاب المحال التجارية دفع فواتير شهرية بدل خدمات النظافة والكهرباء والماء والهاتف، على أن تشمل هذه الخطوة لاحقاً جميع المواطنين لضمان استمرار هذه الخدمات.
لافتتان صغيرتان هما الأكثر انتشاراً على واجهات المحال، كُتب على إحداهما «الرجاء من الأخوات عدم رفع النقاب في المحل»، وعلى الثانية «يتوقف العمل قبل الصلاة بعشر دقائق». وقد خصصت في الأماكن العامة «مُصلّيات»، فيما تكاد الشوارع من المارة تخلو من المارة قبيل مواقيت الصلاة، باستثناء دوريات الدولة الإسلامية.
لا يخفي محمد إعجابه بالسياسة التي تنتهجها «الدولة» ضمن حدود «الولاية»، رغم أن أخاه معتقل في سجون التنظيم منذ أشهر. يشيد بمسلحيها الذين «أعادوا ما استطاعوا من مسروقات الدوائر الرسمية التي كان مقاتلو الجيش الحر قد استولوا عليها». ويشير الى أن عناصر «شرطة المرور الإسلامية» ينتشرون في شوارع المدينة وأسواقها، يرتدون زياً موحداً وينظمون حركة السير ويحررون مخالفات. وفي الدوائر والمؤسسات الخدمية يلتزم الموظفون بواجباتهم تجاه المواطنين. وتهرع سيارات طوارئ الكهرباء والمياه لإصلاح أي عطل طارئ. فيما تمارس «هيئة الخدمات الإسلامية» المحدثة دورها الرقابي على مؤسسات الدولة، وتتابع «دار الحسبة» الأسواق وعمليات البيع والشراء وتطبيق الشريعة ومحاسبة المخالفين.

أحلام مدنية

العطلة الرسمية باتت يومي الخميس والجمعة. يحاول أهل الرقة التأقلم مع واقعهم، يقول محمد، «بعدما ملّوا حالة عدم الاستقرار التي عاشوها خلال تسعة أشهر، كانوا يتوجّسون خلالها من أي اشتباك مفاجئ بين الكتائب. الآن أصبح الحاكم واحداً». ويوضح علاء: «ليس الوضع مثالياً في الرقة، إلا أنه أفضل بكثير اليوم. الناس فقدوا الأمل بالجيش الحر الذي هرب عناصره بعدما سرقوا مقدرات المدينة، واستولوا على الآثار وأموال البنوك ومحاصيل القطن والقمح». ويضيف: «لا يريد المدنيون أكثر من العيش بسلام، ليكن الحاكم من يكن، الدولة الإسلامية أو النظام السوري أو جبهة النصرة. مطلب الناس هو العيش بهدوء كما اعتادوا في مدينتهم».