يخوض المقاومون الفلسطينيون القتال ببسالة، ويحقّقون هدفاً موضوعياً هو تثليم قدرة ردع لدى جيش الاحتلال. والأهمّ إطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية وتفجير الطاقات النضالية؛ فإذا تحقق ذلك في انتفاضة ثالثة، سيكون لكل هذه التضحيات أن تصبّ في مجرى استراتيجي يعزّز محور المقاومة؛ إنما حتى الآن تدور المواجهات في إطار مرسوم مسبقاً، إسرائيلياً وحمساوياً.
سيستمر التصعيد الإسرائيلي في غزة حتى تحقيق الهدف. الهدف هو الوساطة المصرية، المطلوبة، بإلحاح، ليس فقط لكسر العزلة الإسرائيلية، بل، بالأساس، لإعادة مصر السيسي إلى المربع الأول لدور إقليمي صغير لا يتعدى حدود قطاع غزة، كما كان الحال في عهديّ حسني مبارك ومحمد مرسي.
تعيش إسرائيل أزمة التهميش السياسي؛ فهي تقبع، موضوعياً، خارج الملفات الكبرى في المنطقة من الملف النووي الإيراني إلى المفاوضات حول سوريا والمفاوضات حول سوريا؛ وفيها، كلها، يبرز الدوران الإيراني والسعودي. حاولت تل أبيب، وتحاول، بالطبع، أن تجد لها موطئ قدم في التحولات الدولية ــــ الإقليمية، إنما، أيضاً، على الهامش: علاقات أمنية ونفطية مع كردستان العراق؛ مشكلتها أنها مقيّدة بالوسيط التركي، ولا تتمتع بالثبات؛ فالدولة الكردية ليست لديها فرصة أو غطاء للانفصال، أو للبقاء في كركوك، بل أن الحرب العراقية المقبلة، ستكون عربية ــــ كردية، ستفيد منها إسرائيل، ولكن بالقَدر الذي تسمح به العمليات الاستخبارية وامدادات السلاح، لا في السياسة.
وجرّب الإسرائيليون، في الكواليس كما في سلسلة من التصريحات الكثيفة، الحصول على تغطية أميركية لـ «حماية» الأردن من خطر «داعش»؛ لا الأميركيون وافقوا، ولا تعامل المسؤولون الأردنيون مع العرض بأي جدية.
قبلها وبعدها، أقامت إسرائيل «علاقات طيبة» مع الجماعات المسلحة والإرهابية في محافظة القنيطرة، من خلال منحها معلومات أمنية وتسهيلات مرور وعلاج، وحتى تغطيتها في الاشتباك مع الجيش السوري. كل ذلك لم يكن له، ولن يكون له، سوى نتيجة واحدة: لم ينجح مشروع المنطقة العازلة في الجولان، لا سياسياً ولا عسكرياً، بينما انكشفت صورة المسلحين والإرهابيين كخونة؛ فقرار المعارضة السورية هو في مكان آخر، خليجي أميركي تركي، كما أن الحسم السياسي بالانتخابات الرئاسية السورية، وما تلاه من تقدم في الحسم العسكري، وضع الملف السوري على طاولة التسوية الدولية ــــ الإقليمية من دون إسرائيل التي توصلت إلى ادراك بأن الجبهة الشمالية (اللبنانية ــــ السورية) مقفلة؛ العدوان باهظ الكلفة والدور السياسي محدود للغاية.
لم يبق سوى استعادة مصر إلى دورها الصغير في الوساطة، وربطها، تالياً، بالحركة الإسرائيلية. تتوجه مصر ، بعد أن استقر الحكم فيها للمؤسسة العسكرية، إلى الخلاص من هذا الدور، وتحويل كامب ديفيد إلى الأرشيف، من خلال ثلاثة مسارات، (1)، العودة العسكرية والأمنية إلى سيناء من دون التنسيق مع إسرائيل؛ وهي عودة مهدت لها التوازنات المحلية والاقليمية والدولية، من جهة، وفرضها، من جهة أخرى، انفجار الظاهرة الإرهابية في شبه الجزيرة التي تبين أن الفراغ المديد فيها يحوّلها ملاذا للإرهاب؛ هكذا حصل الجيش المصري على غطاء دولي واقليمي لاستعادة سيناء من قيود كامب ديفيد. وهي عملية مستمرة وستتطور وتتأكد، (2) وفي المسار الثاني تتجه الاستراتيجية المصرية إلى القيام بأدوار إقليمية حرة من المشاورات المسبقة مع الأميركيين والرضا الإسرائيلي؛ في الواقع، إن حرية الحركة هذه شرط لاستعادة مصر جزءا من دورها الخارجي المفقود منذ معاهدة 1979؛ وهي استعادة أصبحت ضرورة حياة لمصر في أفريقيا (الأمن والأمن المائي) وفي العالم العربي (صد الإرهاب والحصول على حصة نفطية). هكذا وجدنا الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي في السودان، يعلن أنها «جزء من مصر»، بكل مضامين هذا التصريح الجيوسياسية البالغة الحساسية، كما وجدناه يتضامن مع الحكومة العراقية، برئاسة نوري المالكي، معتبرا أن «العراق هو بلدي الأول»! وعلينا أن نلاحظ ما يكمن في هذا الموقف الشجاع من وقفة ضد تركيا وحليفتها كردستان الاقطاعية، ومن تحد للإرهاب، ومن تمرد ضمني على السعودية، وأخيراً من رفض للصراع السني ــــ الشيعي؛ فلا تنسوا أن مصر هي أكبر بلد عربي سني، وفيها المرجعية السنية التاريخية الكبرى المتمثلة بالأزهر الشريف، (3) على هذه الخلفية، ينبغي أن نفهم أن التصعيد المصري ضد «حماس»، ليس وقفاً على علاقاتها مع إخوان مصر، وليس عداءً عنصرياً ضد الفلسطينيين، إنما هو محاولة جدية للهروب من دور الوسيط بين غزة وتل أبيب.
باستثناء شهوة الولوغ العنصري في الدم الفلسطيني، ليس هناك في فلسطين ما يبرر، سياسياً، الحرب الصهيونية، سوى أزمة العزلة والاحساس المتنامي بأن حركة السياسة الإقليمية والدولية تتجاوز إسرائيل؛ فالقوتان الفلسطينيتان الرئيسيتان، «فتح» و«حماس»، كلاهما، ليستا في وارد مشروع تحرري؛ «فتح» مصرة على السير في طريق المفاوضات بالرعاية الأميركية، و«حماس» مرتبطة بقطر وبالمشروع الإخواني، وأغلب الظن أنها ستواصل القتال بأقصى ما لديها، ولكن عينها على مصر؛ فهي فرصة لإدانتها أو فرض المصالحة معها.