باتت حكومة الرئيس تمام سلام في حاجة فعلية إلى مَن ينقذها من نفسها، بعدما انقلبت عليها آلية توافقها على إدارة صلاحيات رئيس الجمهورية بانتقالها إلى مجلس الوزراء. لم يعد مهماً عدّ الأيام المتعاقبة على شغور الرئاسة الأولى، وقد أضحى الحدث الداخلي في مكان آخر، والبلاد توشك على طيّ الشهر الثاني من الفراغ. قد لا تنفجر حكومة سلام.
إلا أنها تعبر الامتحان الأكثر كلفة، وهو خشيتها من فقدانها مقدرتها على إدارة السلطة الإجرائية بعدما تحوّلت ممارستها صلاحيات رئيس الجمهورية عبئاً عليها. لم تكن نتائج الجلستين الأخيرتين لمجلس الوزراء إلا الصورة المعبّرة حقاً عمّا يعنيه ـــ ويؤدي إليه حتماً ـــ الخلاف داخله، أكثر مما يظهره التوافق على إمرار قرارات ترضي أفرقاء الحكومة جميعاً. بدا مبالغاً به الاعتقاد بأن كلاً من فريقي 8 و14 آذار قادر على إطلاق عمل الحكومة وضمان استقراره، وفي الوقت نفسه تعطيله، قبل أن يتأكد أخيراً أن أي طرف في هذين التكتلين بمعزل عن حلفائه كحزب الكتائب، أو طرف خارجهما كالحزب التقدمي الاشتراكي يملك مقدرة التعطيل الكامل.

ل لا يؤيد المستقبل إقرار سلسلة الرتب والرواتب ولا يريد أمام الشارع تحمّل وزر تجميدها
إلا أن تصاعد الجدل في الأيام القليلة المنصرمة حيال انعقاد مجلسي الوزراء والنواب، كل لأسباب وأهداف مختلفة عن الآخرى، أفضى إلى وضعهما في مأزق مشترك يهدد بتعطيل دوريهما بالتزامن. بات تعيين عمداء الجامعة اللبنانية وتفرّغ أساتذتها يمثل في مجلس الوزراء العقبة نفسها لمشروع سلسلة الرتب والرواتب في مجلس النواب. كلا الملفين يتحركان بفاعلية في الشارع، من غير تمكن أي من السلطتين الإجرائية والاشتراعية من بتهما. فإذا المأزق الدستوري متشعب النتائج:
1 ـــ بعد تباين طويل في سبل إدارة صلاحيات رئيس الجمهورية بعد انتقالها إلى مجلس الوزراء، نجحت حكومة سلام في إرساء آلية غير مألوفة يتفق أفرقاؤها على وصفها بغير دستورية، إلا أنها ضرورية لتسيير صلاحيات الرئيس، وعمل مجلس الوزراء في الوقت نفسه. سرعان ما أضحت الآلية هذه ـــ ولم تتح لمجلس الوزراء منذ إقرارها في حزيران سوى عقد جلستين أخفق فيهما في ملف الجامعة اللبنانية ـــ عبئاً على المجلس. يكفي أن يرفض وزير واحد قراراً كي يتمكن من شلّ السلطة الإجرائية برمتها.
في ما مضى، لأكثر من أسبوعين، كان رئيس مجلس النواب نبيه بري يسهب في الرهان على عمل الحكومة وتوافقها على آلية عملها، مرحباً بها ومؤيداً، وهو يقلل في الوقت نفسه مما كان سبّاقاً إلى انتقاده: عدم دستورية الآلية تلك. منذ ما قبل نهاية الأسبوع الماضي، على إثر جلسة الخميس خصوصاً، كان من السهولة بمكان ملاحظة انطباعات معاكسة: امتعاض بري بوتيرة متزايدة من تنامي خلافات الوزراء، وإبرازه مجدداً الآلية غير الدستورية.
يروي أحد الوزراء ما يعدّه مشهداً غير قابل للتصديق أحياناً: يدخل الوزراء إلى مجلسهم ويناقشون الوضع الأمني وأخطار الإرهاب وتهديداته، وسبل جبه انتقاله إلى لبنان، بمسؤولية عالية واستثنائية. يطرحون الاقتراحات والخيارات، ويتصرفون فريقاً واحداً يكاد يفكر بأسلوب متطابق. ما إن ينتقل الحديث بعد ذلك إلى جدول الأعمال حتى يتفرقوا. يتفرد كل بدوره يطالب بحصته في السلطة، ويلوح بمعارضته، ومن ثمّ تهديده برفض القرار، إشارة إلى استخدامه حق النقض لتعطيل الجلسة.
يقول الوزير إنها حال الجلستين المتتاليتين هذا الشهر، وكان التدهور الأمني في المنطقة يرخي بثقله في كل اتجاه، عندما سبّب موقف حزب الكتائب في الجلسة الاولى، ثم موقف الحزب التقدمي الاشتراكي في الجلسة الثانية، رفعهما دونما الاتفاق على ملف الجامعة اللبنانية.
2 ـــ رغم تقاسمهما مجلس النواب والحكومة في آن واحد، يقارب فريقا 8 و14 آذار العلاقة بين المؤسستين الدستوريتين على نحو متناقض، إحداهما حيال الأخرى، كما في قلب كل منهما. لم تعد المؤسستان وجهاً لوجه على غرار ما كانتا عليه بين عامي 2006 و2008، إبان حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، بل تشعبت أوجه التناقض على نحو تبرزه المعطيات الآتية:
ـــ يرفض الوزراء المسيحيون المشاركة في جلسة مجلس النواب ما لم يُصر أولاً إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولئلا يتحول تجاهل منصب الرئاسة سبباً لانتظام السلطتين الأخريين، بينما يشغر موقع الشريك الماروني في معادلة الحكم والسلطة. إلا أنهم يبدون الوزراء الأكثر حماسة في عمل الحكومة والإفصاح عن الإنجازات، من غير أن يحملوها إلى البرلمان. مع ذلك يصطدم بعضهم بالبعض الآخر، داخل مجلس الوزراء، عند الخوض في توزّع الحصص، ويسبب تعطيل الجلسة.
ـــ أبلغ تيار المستقبل إلى بري استعداده حضور جلسة اشتراعية بعد إقراره بخطأ مقاطعة المجلس إبان استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، قبل أن يتذرع بأنه مرغم على مجاراة حلفائه المسيحيين في المقاطعة إلى حين انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ـــ يوافق تيار المستقبل على مشاركة مشروطة في جلسة نيابية تقتصر على بند أو اثنين يعدّهما ضروريين وملحين، من غير أن يسلم في المقابل بحق البرلمان في التشريع في ظل شغور الرئاسة المارونية، بعدما رفض قبلاً التسليم بهذا الحق عند شغور المنصب السنّي الأول في الدولة، وهو رئاسة الحكومة. إلا أن رئيس المجلس يتمسك بموقف معاكس تماماً، هو أن موافقته على تقييد جدول الأعمال ببنود هي الأكثر الأهمية، يستمدها من مراعاة واقع استثنائي ناجم عن تعذر انتخاب الرئيس ليس إلا، لا إقراراً بأن ليس للمجلس أن يجتمع في حال مماثلة. يفسّر بري تشبثه بموقفه هذا من خلال دعوته مرة تلو أخرى إلى جلسة عامة للمجلس ـــ وإن تعذّر اجتماعه ـــ تفادياً لتكريس سابقة رضوخه لذلك التفسير، والتخلي عن صلاحية جوهرية للبرلمان هي حقه في الاجتماع في كل وقت وأوان.
ـــ مقدار ما يقبض تيار المستقبل على قرار مشاركته في جلسات مجلس النواب، ويمنع من ثمّ للسبب نفسه، التئامه في غياب النواب السنّة، يقبض بري على مفتاح آخر لممارسة ضغط معاكس هو وجود وزارة المال في عهدة حركة أمل عبر وزيره علي حسن خليل. يتسلح رئيس المجلس بحجتين:
أولاهما، أنه لا يسعه الخوض في أي بند لجلسة نيابية قبل استكمال مناقشة البند المفتوح منذ الجلسة السابقة، وهو مشروع سلسلة الرتب والرواتب، ويحض الفريق الآخر على إنجاز المشروع بإقراره أو رده توطئة للانتقال إلى بند آخر هو موضع اهتمام تيار المستقبل، المتعلق بسندات الأوروبوندز لتسديد ديون خارجية. لا تيار المستقبل يؤيد إقرار سلسلة الرتب والرواتب، ولا يريد أمام الشارع تحمّل وزر تجميدها، ما يحمله على اشتراط حضوره جلسة تبدأ بجدول أعمال مختلف. وهو ما يرفضه بري، ويرى أنه يتعارض مع أحكام النظام الداخلي لمجلس النواب.
ثانيتهما، أن رواسب الخلاف على مشاريع قوانين كانت حكومة السنيورة أقرتها بين عامي 2006 و2008، ورفض رئيس المجلس تسلمها لصدورها عمّا عدّه سلطة افتقرت في ذلك الوقت إلى ميثاقيتها، لا تزال تجرجر أذيالها. ما يضع بين يدي وزير المال عصب السلطة: لا دفع لرواتب موظفي القطاع العام إلا بقانون في مجلس النواب. وهو بذلك، تأكيداً لما لا يزال يتمسك به بري، يبقي على الطعن في دستورية مشاريع القوانين الـ62 التي أعدتها حكومة السنيورة، بينما يسعى الأخير إلى تفاهم على إبراء ذمة حكومته فيها.