طوال أشهر، أقلق ليل طرابلس دوي انفجارات مشبوهة. لم يكن يمرّ أسبوع من دون تفجير إصبع ديناميت هنا أو رمي قنبلة يدوية هناك لخلق بلبلة أو توترٍ أمني في أوقات وتواريخ وأماكن مختلفة في عاصمة الشمال. وكانت هذه التفجيرات تُؤدي أحياناً إلى إصابة مدنيين بجروح، وتعقب كل اشتباك بين جبل محسن وباب التبّانة. كأنه لم يكن يُراد لطرابلس أن تهدأ، أمّا الفاعل فكان دائماً مجهولاً. لم يدم الأمر على حاله، إذ تمكنت استخبارات الجيش من تحديد عدد من المشتبه فيهم.
تصادف ذلك مع تسليم أحمد ج. (مواليد 1995) نفسه معترفاً بالقيام مع آخرين بـ«رمي عدد كبير من الرمانات اليدوية وأصابع الديناميت» بين منطقتي باب التبانة وبعل محسن مقابل مبالغ مالية تتراوح بين ٢٠ و٢٥ ألف ليرة لبنانية للقنبلة الواحدة من مشغّله بلال ع. الملقّب بـ«بلال أبو منصور». الموقوف الذي يعمل حلّاقاً رجالياً أفاد خلال التحقيق أنّ «بلال أبو منصور» الذي يقود مجموعة مسلّحة في محور ستاركو طلب منه ومن صديقه علي م. (مواليد 1990) رمي مفرقعات تُحدث دوياً كبيراً بهدف الإبقاء على حالة التوتّر في أماكن يُحدّدها هو مقابل مبلغ 25 ألف ليرة عن كل عملية. واعترف الموقوف بأن المرحلة الأولى اقتصرت على رميهما المفرقعات خلال الليل ثم تطوّرت العملية إلى رمي قنابل يدوية وعدد كبير من أصابع الديناميت. وعدّد أماكن قام وشريكه برمي قنابل وديناميت فيها، وكشف عن أسماء آخرين شاركوهما المهمة هم: أحمد ع. وخالد ش. ونديم ح. وعبدالله ج. وجلال م. وشقيقه الملقّب بـ«أبو عمر» ومحمود ب. وأسامة منصور (مواليد ١٩٨٧ـــ ببنين) المقرّب من أحد أبرز المشايخ السلفيين في الشمال، علماً بأن المشتبه فيهم جميعهم من أبناء باب التبّانة ويقيمون فيها. أما الأخير، فيُعدّ في عُرف الأمنيين «الأكثر خطراً». كذلك ذكر أن المدعو زياد الصالح (مواليد 1969) المعروف بـ«زياد علّوكي» كان يُزوّد بلال بالأموال والقنابل والديناميت. وأشار إلى أنّه كان يستهدف بعض الأماكن الحسّاسة كالمساجد والنقاط التي تقع على تماس مباشر مع جبهة بعل محسن للإيحاء بأن مسلّحي الجبل هم من يقومون بذلك، كاشفاً أنه كان يرمي القنابل وأصابع الديناميت عن أسطح مبان أو من على متن دراجة نارية يقودها «بلال أبو منصور».
إزاء ذلك، أشار مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر بتوقيف كافة الأشخاص الواردة أسماؤهم في إفادة الموقوف أحمد. وبناءً عليه، تمكنت دورية من فرع استخبارات الشمال من توقيف نديم ح. الذي يعمل بائع كعك متجوّل في باب التبّانة.

وعد المشغّل
الشبّان بدفع 25 ألف ليرة عن كل قنبلة يرمونها

ولدى استجوابه، اعترف بأنّه رمى إصبع ديناميت واحداً في شارع سوريا. وذكر أنه كان يُشاهد كلاً من علي م. وبلال ع. وخالد ش. وشاباً يلقّب بـ«محمد خردة» وخامساً يقومون برمي رمانات يدوية وأصابع ديناميت من على أسطح المباني بمعدّل ثلاث أو أربع مرات شهرياً. وذكر أنّ «أبو منصور» طلب منه رمي إصبع ديناميت ووعده بأن يدفع له 20 ألف ليرة، لكنّه أخلف بوعده.
وفي السياق نفسه، أوقف علي م. لكنه أنكر التُّهم المنسوبة إليه أمام قاضي التحقيق العسكري مارون زخّور. ولدى مواجهته باعترافات أصدقائه، ردّ بأن زجّ اسمه هدفه إبعاد التهم عن كوادر باب التبانة. وإذ أكّد وجود معلومات في منطقته تتحدث عن تورّط الموقوفين، نفى أي علاقة له بهم. ولدى مواجهة علي بإفادة أحمد ج. التي قال فيها إنهما كانا معاً لدى رمي القنابل والديناميت، ردّ بأنّ الأخير ربما أدلى بذلك تحت وطأة الضرب.
بناءً على ما سبق، رأى قاضي التحقيق العسكري مارون زخّور أنّ الأشخاص الواردة أسماؤهم في التحقيقات أقدموا على الانتماء إلى تنظيم مسلّح بهدف القيام بأعمال إرهابية ورمي قنابل يدوية وأصابع ديناميت بهدف زرع الرعب في نفوس المواطنين. وأصدر قراراً اتّهامياً ضد الموقوفين بموجب الجرم المنصوص عليه في المادة 335 من قانون العقوبات و5 و6 من قانون 11/1/ 1985 والمادة 72 من قانون الأسلحة. وهي مواد تختص بالجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي والجرائم ذات الطابع الإرهابي الخطير. ورغم اتهام هؤلاء بجناية تمسّ أمن الدولة، تُرك الموقوفون الثلاثة بسند إقامة.
وكشفت مصادر قضائية لـ«الأخبار» أنّه معروف أن قاضي التحقيق العسكري يُعوّل على الإفادة الاستنطاقية أكثر من اعتماده التحقيق الأولي، لكون هذه الإفادة تُشكل اقتناعاً له، إما بالبراءة أو بالإدانة، لكونه يملك متسعاً من الوقت لاستكمال التحقيق ومقارنة الأقوال الجديدة المدلى بها أمامه مع الإفادات المدلى بها خلال التحقيق الأولي. كذلك لديه الوقت لتمحيص الواقعات العامة للملف.
وكل ذلك يعزز لديه الاقتناع إما بمنع المحاكمة أو الاتهام. أما ترك المشتبه فيهم خلال التحقيق الاستنطاقي أمام قاضي التحقيق بسند إقامة، ثم إعادة اتهامهم لاحقاً، فهو أمر يخرج عن المألوف القانوني. إما الرجل مذنب أو غير مُذنب، إذ كيف يُترك متّهمون بجناية بسند إقامة ثم من بعدها يُدّعى عليهم؟ سابقة قضائية تُسجّل للمرة الثانية، شبيهة بقضية رئيس بلدية عرسال علي الحجيري الذي أخلى قاضي التحقيق العسكري فادي صوّان سبيله مقابل كفالة، ثم ادّعى عليه بجناية ترقى إلى مصاف الجرائم التي تمس أمن الدولة.