السبب الأساس لأزمة المواصلات، يكمن في السياسات العامة التي خرّبت النقل العام عن قصد وبشكل منهجي، مانحة الهدايا «المجانية» على حسابه لشركات النقل الخاصة، وأحجمت حتى عن تحمل مسؤوليتها الأساسية بتنظيم فوضى الأخيرة على الاقل، لتأمين خدمة عامة بالحد الأدنى. ثمة «مشروع نموذجي» للنقل المشترك لمنطقة «بيروت الكبرى» ينتظر القرار السياسي والتمويل، ترتضي بموجبه شركات النقل الخاصة (كثر الله خيرها) استعادة الدولة لدورها الناظم، مقابل حصول الشركات على «حوافز» إضافية تشجعها على الدخول «شريكاً» بحصة الأسد من المشروع.
الفساد في الشارع

«كان الاقتصاد بخير» قبل حرب عام 1975 والاجتياح الإسرائيلي عام 1982 اللذين قضيا على معظم قاطرات ومقطورات السكك الحديدية وأسطول باصات النقل العام، يقول رئيس نقابة عمال ومستخدمي مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك ريمون فلفلي. يشرح الرجل أن «المرفق الحيوي كان يؤمّن نقل الأشخاص والبضائع وتوزيعها بأسعار زهيدة»، ما ينعكس انخفاضاً في معدل أسعار السلع وبالتالي ارتفاعاً في مداخيل الناس، ويحد من التلوث وأزمات وحوادث السير الناجمة عن الشاحنات خصوصاً. «كانت عودة الأوتوبيس إلى الشارع بالنسبة إلى الناس الأمان وعودة النظام»، يضيف أحد النقابيين، واصفاً مركبات النقل المشترك بـ«الواجهة المدنية للدولة في الشارع»، حيث يتذكر مثلا انه كانت في استقبال الوافدين إلى البلاد حافلتان ترابطان تحت ساعة المطار بشكل دائم.
حكومات ما بعد الطائف تركت النقل المشترك يعمل، الا ان باصاته كانت قليلة ومن مخلفات الحرب. عام 1997، جرى شراء 200 أوتوبيس من طراز «كاروسا» التشيكية، بموجب قرار من مجلس الوزراء، خارج آلية المناقصات العمومية، ومن دون مراعاة المواصفات الفنية لدفتر الشروط، يقول فلفلي، موضحاً أن الباصات كانت شبه مستهلكة، وأن 60 باصاً منها كان معطلاً عند وصولها إلى المرفأ! هكذا، تم قطرها إلى المصلحة في منطقة مار مخايل؛ كما جرى استيراد الباصات من دون تعديل في نظامها الميكانيكي المصمم للعمل في درجات حرارة تصل إلى 20 درجة مئوية تحت الصفر، فتعطل حوالى 50 منها فور انطلاقها للعمل على الخطوط، وتوقف حوالى 100 منها عن العمل نهائياً بعد سنتين من دخولها الخدمة في لبنان، قبل أن يلجأ لبنان الى خبراء ألمان وتشيكيين لتعديل النظام الميكانيكي ليتناسب مع مناخنا.

شركات النقل الخاصة
في لبنان «بُنيت على أنقاض
النقل المشترك»


كان بالإمكان الاستفادة
من قطاع النقل الخاص لو نُظم بعيداً من الحصرية

التزمت إدارة المصلحة خطةً للحفاظ على عمل الأوتوبيسات «قدر الإمكان»، فصار فنيو المصلحة بين عامي 1997ـ 2000 يستخدمون قطعاً من الباصات المتوقفة نهائياً عن السير لصيانة الأخرى، حتى عام 2008 حين «توقف آخر باص» كاروسا، بعد نفاد قطع الغيار في السوق المحلي إثر إقفال الشركة المصنعة، ما أدى إلى ارتفاع كلفة صيانة الأوتوبيسات لدرجة عالية جداً. عام 2000 وهبت الإمارات 40 أوتوبيساً للقصر الجمهوري الذي أعطى 37 منها لمصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، ليتعطل بعضها لاحقاً ويتم شراء 20 باصاً صغيراً من طراز «ميتسوبيشي» بقرار من مجلس الوزراء عام 2011، ليصبح عدد الباصات العاملة اليوم 45 باصاً تعمل على القليل من الخطوط في بيروت ومحيطها، بحسب فلفلي.

الخصخصة أيضاً وأيضاً

يتحدث فلفلي عن «خطة مبرمجة لتدمير القطاع» عبر الخصخصة، مؤكداً أن شركات النقل الخاصة «بُنيت على أنقاض النقل المشترك». تعاونت مؤسسات ثلاث لإجراء الإحصاءات اللازمة وإعدادها لتحديد خطوط سير الباصات ومحطات الوقوف وسائر المعطيات ذات الصلة في بيروت وضواحيها، يشرح فلفلي (كلفت الدراسة الدولة مليون دولار أميركي، وسرقها موظف متعاقد وأعطاها لإحدى شركات النقل الخاصة، بحسب مسؤول متقاعد من المصلحة رفض الكشف عن اسمه)، فاستفادت من الدراسة شركات النقل الخاصة التي «أطلق يدها» مرسوم صدر عن مجلس الوزراء عام 1997 يقضي بـ«مؤازرة» القطاع الخاص للنقل المشترك، استولت بموجبه إحدى شركات النقل الخاصة على 20 ألف متر مربع من أملاك مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، تقع على ساحة العبد في بيروت، لقاء مبلغ رمزي قدره ألف ليرة لبنانية سنوياً (أقل من دولار!) واستعملت الشركة نفسها منشآت النقل العام كمخازن، بحسب فلفلي.
تمكنت الشركة المذكورة المعفية من أكلاف إيجار أو تملك الأرض والمخازن، والمهداة الدراسة آنفة الذكر، من تحقيق أرباح مكنتها من شراء قطعة أرض كبيرة في منطقة خلده قرب المطار وبناء المستودعات فيها بدل دفع إيجار للنقل المشترك، فضلاً عن شراء 390 أوتوبيساً نافست بها باصات النقل المشترك على جميع الخطوط، فـ«صارت تسير الباصات الخاصة وراء وأمام باصات الدولة» التي بات يتعرض سائقوها للضرب والتهديد من قبل بعض سائقي القطاع الخاص، يقول فلفلي، لافتاً أن كل ما فعلته قوى الأمن إزاء الاعتداءات تلك كان مواكبة سياراتها لباصات النقل المشترك ليوم واحد فقط، إثر تعرض سائق لجروح بليغة نتيجة الضرب المبرّح.
يشير الرجل إلى أن قرار مجلس الوزراء رقم 27 الصادر بتاريخ 19/8/2004، القاضي بتفعيل النقل المشترك بشراء 250 باصاً، والذي «لم يُنفذ منه شيء حتى اليوم، ترافق مع اعتداءات متواصلة من قبل القطاع الخاص»، فأدى تمنع الدولة عن قيامها بواجبها بحماية آلياتها وسائقيها، فضلاً عن الإهمال المتعمد، إلى الغياب الكامل للنقل العام عن مناطق كثيرة منها العاصمة!

شغور غير رئاسي

مجرد الحفاظ على مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك وأملاكها (التي تبلغ مساحتها 9 ملايين متراً مربعاً ) يقتضي ملء الشغور الحاد في ملاك الإدارة التي «تقوم على القيادة الوسطى، أي الفئات الثانية والثالثة، وهي الآن فارغة تماماً»، وتوظيف الحراس ومراقبي الخطوط ومسّاحين طوبوغراف ومهندسين وفنيين، يقول زياد نصر رئيس مجلس الإدارة والمدير العام للمصلحة، لم يُعيَن موظفون جدد في الفئات تلك مكان من تقاعدوا، لذا تعمد الإدارة إلى تكليف موظفين من فئات دنيا بمهمات موظفي الفئات الوسطى، وذلك بموجب قرارات صادرة عن مجلس الوزراء تجيز «التكليف» بدل التعيين بالأصالة أو الإنابة، كما تقتضي الأصول، يشرح نصر؛ ويصل الأمر حد تكليف بعض السائقين الممنوعين من القيادة، بموجب تقارير الهيئة الطبية، مهمات إدارية كالمحاسبة، فضلاً عن المهمات التقليدية البديلة كمراقبة الخطوط! يمكن إحصاء عديد الموظفين في فرع سكك الحديد على أصابع اليدين، في حين يحتاج الفرع إلى العديد من العاملين والفنيين لمراقبة وحماية أملاكه على الاقل؛ وتعمل باصات النقل المشترك بوتيرة أقل بسبب عدم كفاية السائقين المؤهلين، فالعديد من السائقين المسجلين دفترياً ممنوع من القيادة بموجب تقارير اللجنة الطبية.
التوظيف «أولى أولويات» نصر، وذلك «للحفاظ على المصلحة وأملاكها أولاً، ثم النهوض بها تمهيداً لمواكبة الخطط المستقبلية» التي تتوافر لها الدراسات، إنما ليس الكادر البشري الضروري لتنفيذها، ولا التمويل. تعاني المصلحة من سياسة تجميد التوظيف في القطاع العام، ولا تُعطى الحد الأدنى من الاعتمادات الضرورية؛ «الموازنات لا تنم عن أية نية للنهوض بالمؤسسة المتروكة منذ 40 عاماً»، يقول نصر، مشدداً على أن مجرد تسيير المرفق العام يحتاج إلى تطوير أنظمة الملاك والاستثمار والنظام المالي ونظام العمل، ما يتطلب الكوادر الوسطى الغائبة غياباً شبه تام حالياً.
ينتقد نصر «العشوائية في قطاع النقل بغياب الخطة، وتشعب وتضارب الصلاحيات». كان يُفترض إعطاء التراخيص لباصات النقل الخاصة على خطوط محددة حصراً، وعلى أساس القدرة الاستيعابية لكل خط. كان بالإمكان الاستفادة من قطاع النقل الخاص لو نُظم «بعيداً من الحصرية»، وضمن شروط محددة، أهمها تحديد الدولة لخطوط السير والمواقيت والتعرفات، يقول نصر، مشدداً على أن «الإشراف والتنظيم يجب أن يظل في يد المؤسسة» الرسمية.

إشراك القطاع الخاص

«المشروع النموذجي» لمنطقة بيروت الكبرى أبرز «الخطط المستقبلية» المُنجزة والمعوّل عليها لتنظيم فوضى قطاع النقل وتأمين خدمة منتظمة وشاملة لجميع أحياء العاصمة ومحيطها، في حال نُقل الاعتماد المرصود للخطة فعلياً إلى حساب المصلحة أو موازنة وزارة الأشغال العامة والنقل. وفي حال سُمح بتوظيف طاقم الإداريين والمهندسين والفنيين والسائقين وقاطعي التذاكر الضروري لتستطيع المصلحة مواكبة المشروع إشرافاً وتنظيماً على الأقل، إن لم يكن تشغيلاً!
يهدف المشروع لإنشاء 911 محطة وقوف تتوزع في أحياء المدينة كافة، وتكون على مسافة أقصاها 300 متر من أي حي سكني، وتسيير 750 باصاً جميعها مزوّد بأجهزة تحديد الموقع GPS، تتحكم بها غرفة عمليات حديثة توفر القدرة على ضبط مسارات الباصات ومواقيتها. يتحفظ القيمون على المشروع على تفاصيله، لكن الأكيد هو منح القطاع الخاص حصة الأسد منه، إضافة إلى «حوافز» لإقناعه باستعادة الدولة دورها الناظم للقطاع! يتحدث نصر عن عدم قدرة الدولة على شراء أكثر من 20 باصاً للمشروع (من أصل 750!)، ما يفرض إشراك النقل الخاص عبر إدخاله في نظام المشروع ومحطاته، شرط التزامه التعرفة والخطوط والمواقيت والمواصفات والمعايير، ولا يستبعد نصر احتمال تلزيم تشغيل باصات النقل المشترك للقطاع الخاص، لقاء بدل معين يحدد بمزاد، فيما يتحدث مصدر مطلع عن إمكان خصخصة إدارة مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك نفسها! كما تتحدث مصادر مطلعة على الملف عن «مساعدة» الشركات الخاصة لشراء باصات جديدة تطابق المعايير والمواصفات، عبر إنشاء صندوق خاص يمنحها قروضاً ميسّرة، فضلاً عن إعفائها من الرسوم الجمركية!




«يا ترامواي بيروت»

أواخر العهد العثماني، عام 1906، افتتحت شركة بلجيكية ترامواي بيروت بخطيه الرئيسيين: واحد ينطلق من البربير فحرش بيروت فالدورة، وآخر يبدأ من فرن الشباك ويتجه نحو المنارة مروراً بساحة البرج؛ وكان الهدف من رسم مسارات الترامواي بذاك الشكل «ربط النقاط الطرفية بقلب بيروت، في مشروع لتوسيع العمران؛ لبناء المدينة وإنعاشها»، بحسب الدكتور محب شانه ساز، أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية، الذي شرح لـ»الأخبار» أن التخطيط المديني جاء «احتراماً وانطلاقاً من محور المدينة الأساسي: الترامواي». ساحة النجمة ذات المتفرعات الشعاعية كانت نقطة تتوسط حلقة الترامواي الذي «أُعيد تركيب المدينة على أساسه»، يقول شانه ساز إن الترامواي جلب الكهرباء إلى بيروت للمرة الأولى، إذ كانت «شركة الكهرباء والترامواي» تتغذى من المعمل الكهرومائي في بلدة معصريتي، وأدخل مفهوم «الخط العام» على قاموس أهل المدينة.
كان «الترام» رابطاً لمناطق المدينة، وكان «شريانها الحيوي»، فكان أداة الوصل بين القطار والأسواق، وبين المساكن البعيدة ومناطق العمل، يقول شانه ساز، موضحاً أن كل المخافر والمؤسسات الرسمية كانت على خطه، وكذلك المدارس والجامعات ودور العبادة والمدافن، وأيضاً المقاهي ودور السينما والمسارح، فكان المرء «يولد ويموت ويذهب إلى الجامعة ويتسلى... حول الترام»!
«المكان العام مختلف عن الخاص، حيث الأعراف العائلية والمحسوبيات والاعتبارات المحلية تسيّر المكان»، يلفت شانه ساز، شارحاً أن أهل المدينة وروادها أصبحوا مع إدخال الترامواي «بحضرة القانون، فلا تستطيع أن تتصرف كما يحلو لك، كأن تتوقف أو تعيق الطريق أو تسدها؛ كان «الترام» يتمهل ليمر موكب الجنازة، ولا يتوقف! أدخل الترامواي فكرة الحيز العام، وفرض قانون عام ينضبط الناس في إطاره»، وأدخل «الناظم الوقتي» إلى حياة الناس، وشكّل وسيلة وفسحة للتلاقي والتعارف. يشير شانه ساز إلى «فرضيات» حول إنهاء الترام، فيقول إن الأخير كان «وسيلة نقل حيوية ومحورية تسيّرها المياه» (المعمل الكهرومائي)، إلى أن أتى الزمن حين بات مطلوباً «الارتباط بالبترول والخليج والأميركان، فبات طبيعياً أن تستورد السيارات والباصات والنفط»، وأن يُنهى عمل الترامواي عام 1964، أي في حقبة «التطورات السياسية التي أعقبت نزول المارينز إلى بيروت عام 1958». ولقد رثى الفنان اللبناني والشاعر عمر الزعني «ترامواي بيروت» بأغنية رائعة ساخرة تقول كلماتها:
«رزق الله على ايامك يا ترامواي بيروت
كنت تمشي الحال وتسعف كل البيوت
شالوك لانك دغري
وبتمشي على سكة دغري
لا بتلف وتفوت
يا ترامواي بيروت».