ليس هناك حدود للوقاحة في التعاطي مع ملفات حسّاسة، كإدارة المال العام وتحديد مراتب الناس وترتيب حقوقهم على الدولة. «الوقاحة» ليست هي الجواب، وقد تكون التعبير المخفف لوصف مواقف كتلة «المستقبل» برئاسة فؤاد السنيورة من طلب وزير المال إقرار قانون مالي استثنائي في مجلس النواب لـ«قوننة» الإنفاق الإضافي المطلوب. إلا أنها «وقاحة»، في كل الأحوال، أن تطلب هذه الكتلة من وزير المال الحالي مخالفة الدستور والقوانين ليتساوى في المخالفة مع وزراء المال السابقين، الذين سمحوا بإنفاق أكثر من 130 ألف مليار ليرة من دون أي قانون للموازنة بين عامي 2006 و2013، ونحو 50 ألف مليار ليرة فوق ما تجيزه القاعدة الاثني عشرية، حتى وفق التفسيرات غير الصحيحة التي تجيز اعتمادها كل الوقت، في حين أن الدستور واضح في إجازتها لشهر واحد هو كانون الثاني من العام في حال تأخُّر إقرار قانون الموازنة.
ما تطلبه الكتلة على لسان نوابها صريح جداً، بلغ الأمر بالرئيس فؤاد السنيورة إلى اعتبار صرف المال العام من دون إجازة من مجلس النواب بات «عرفاً قانونياً».

لذلك تعلن الكتلة بوضوح تام: إذا لم تجر «قوننة» كل المخالفات السابقة، فإنها لن تسمح بقوننة مخالفة لم تحصل بعد، بل تصر على دفع وزير المال إلى ارتكابها لأن من سبقوه ارتكبوها. وبالتالي، فهي ترى أن حجّته ساقطة، ولو أدى هذا الإصرار على عدم المخالفة إلى قطع رواتب أكثر من 220 ألف موظّف ومعلم وعسكري ومتقاعد ومتعاقد وأجير اعتباراً من 25 تموز الجاري!
لكن «الوقاحة» ليست فقط في الاستهتار بمصالح وحقوق نحو ثلث الأُجَراء في لبنان، بل أيضاً في إعلان كتلة «المستقبل» أنها مستعدة بقوة للمشاركة في جلسة نيابية تشريعية يكون على جدول أعمالها مشروع قانون يجيز لمجلس الوزراء رفع سقف الاقتراض بالعملات الأجنبية. ماذا يعني ذلك؟ يعني ببساطة أن الكتلة لا يهمها إذا توقفت وزارة المال عن تسديد الرواتب والنفقات الضرورية الأخرى بحجة عدم وجود قانون يجيز صرفها، ولا يهمها بالطبع إذا جرى صرفها خلافاً لأحكام الدستور وقانون المحاسبة العمومية، ما يهمها بالفعل أن لا تتوقف الخزينة العامّة عن دفع مستحقات «اليوروبوندز»، وأن لا تضطر إلى تسديد نحو 500 مليون دولار (أصلاً وفوائد) مستحقة حتى نهاية هذا العام، عبر آليات مخالفة للدستور والقانون، وذلك حماية للمصارف والمكتتبين من أي مساءلة لاحقة قد تحصل.
المعروف أن الوزير علي حسن خليل أحال مشروع قانون لفتح اعتمادات إضافية بقيمة 1558 مليار ليرة لتسديد الرواتب والأجور والنفقات الأخرى الإضافية في الفترة الباقية من هذا العام. وكذلك أحال مشروع قانون يجيز للحكومة إصدار سندات دين بالعملات الأجنبية لتغطية الاستحقاقات التي تزيد على سقف الاقتراض المجاز سابقاً. وكان مجلس الوزراء قد أقر هذين المشروعين وأحالهما على مجلس النواب، حيث أقرّتهما لجنة المال والموازنة النيابية وصوّتت كتلة المستقبل ضد المشروع الأول، واشترطت لتمريره في الهيئة العامة إجراء تسوية لكل المخالفات السابقة، ولا سيما التي ارتكبتها حكومة فؤاد السنيورة.

تيار المستقبل:
الإصرار على التسويات الجزئية يعرقل
إقرار السلسلة



عضوا الكتلة النائبان غازي يوسف وجمال الجراح عقدا مؤتمراً صحافياً مشتركاً في مجلس النواب حمّلا فيه الوزير خليل شخصياً مسؤولية حرمان 200 ألف عامل رواتبَهم في عيد الفطر. هي معادلة حسابية بسيطة تدحض، كما يقول يوسف، ادعاء الوزير وتهويله، فيما دعا الجراح إلى تسوية شاملة ونهائية لكل الحسابات الماضية، أي لسلفات الخزينة من 2005 حتى 2014، باعتبار أنّ المخالفات متشابهة ومستمرة، إذ إنّ تجزئة الحلول ليست حلاً، ودفع غلاء المعيشة من بند الرواتب ليس قانونياً.
في المعادلة، يشرح يوسف أنّ مجموع الاعتمادات المتوافرة للرواتب والأجور لعام 2014 يقارب 2660 مليار ليرة، وهي متأتية من البند 13 (مخصصات الرواتب والأجور وملحقاتها) من موازنة 2005 والقانون 238 (الاعتمادات الإضافية التي أقرت لحكومة الرئيس ميقاتي 8900 مليار). وإذا كانت الكلفة الشهرية للرواتب والأجور في القطاع العام هي 291 مليار ليرة، فإنّ المبلغ المسدد خلال 7 أشهر هو:291*7= 2037 ملياراً، ما يعني أن الرصيد الباقي للاعتمادات المتوافرة لدفع الرواتب والأجور لعام 2014 هو: 2660 - 2037=623 ملياراً، أي ما يكفي لدفع رواتب وأجور شهري آب وأيلول.
«هذا المبلغ موجود على الدفتر والورقة وما حدا يخوفنا ويهددنا»، يقول يوسف. ويستغرب كيف أن «الوزير الذي لا يريد أن يخالف القانون استعمل الاعتمادات الموجودة في البند 13 أي 2660 ملياراً لتسديد سلفة على غلاء المعيشة التي أقرها مجلس الوزراء والبالغة كلفتها نحو 851 ملياراً سنوياً، أي إنه ببساطة استعمل اعتمادات لنفقات غير مرخص بها من مجلس النواب، أو بمعنى آخر خالف القانون».
الأرقام تشير، بحسب يوسف، إلى أن وزير المال قد سدد 2037 ملياراً لدفع رواتب وأجور العاملين في القطاع العام لغاية الشهر السادس، إضافة إلى نفقات غير مرخص بها لسداد غلاء المعيشة، أي ما يوازي 71 ملياراً شهرياً، ما يعني أنّ ما أنفق في خلال 7 أشهر خلافاً للقانون: 71*7=497 ملياراً. ويلفت يوسف إلى أنّ «خليل خالف القانون وصرف من بند لا يحق له أن يصرفه، بدلاً من أن يخالف ويطلب سلفة لسد غلاء المعيشة»، مستغرباً مطالبته اليوم، بكل براءة، بسلفة ليدفع الرواتب والأجور فقط، في محاولة لذر الرماد في العيون وتغطية المخالفة التي حصلت.
أما الجراح فيرى أنّ دفع غلاء المعيشة من مخصصات الرواتب والأجور قبل إقرار سلسلة الرتب والرواتب، هو بحد ذاته مخالفة للإنفاق، وهذا إقرار جزئي للسلسلة، في حين أنّ السلسلة قانون واحد ومشروع واحد، وبالتالي إنّ قوننة جزء منها أيضاً مخالفة للقانون. ويسأل: «لماذا استيقظ البعض على عدم مخالفات القانون، على الرغم من أنّ سلفات الخزينة تقرّ في مجلس الوزراء مجتمعاً، بينما وزير المال اتخذ قراراً منفرداً بالإنفاق على غلاء المعيشة من بند الرواتب؟ ويستدرك أنّ هذا «العمل مستمر منذ عام 2005 حتى الآن نتيجة غياب الموازنات». ويقترح الجراح لإنهاء الجدل السياسي إخضاع كل هذه الحسابات منذ 2005 حتى 2013 ولاحقاً 2014 لرقابة ديوان المحاسبة». ويقول إنّ الوزير وفريقه السياسي كانوا مشاركين في الحكومة التي ارتكبت مخالفات ونشتمّ بصراحة رائحة قوننة ما دُفع من أجل عرقلة إقرار السلسلة وتحميل فريقنا السياسي المسؤولية، فالفريق الذي يصر على التسويات الجزئية هو الذي يعرقل السلسلة وليس نحن».
الجراح أكد أنّ الحل بيد الفريق الآخر «فليطلبوا سلفة خزينة يغطون بها مخالفتهم بغلاء المعيشة».
استدعى هذا الكلام ردّاً سريعاً من وزير المال رأى فيه أنّ «طريق تشريع مخالفات المرحلة السابقة، واضح ومعروف وفق الدستور والقوانين والأصول المرعية الإجراء وليس عبر المؤتمرات الصحافية». وقال: «كان الأجدى أن يضع هؤلاء جهدهم الذي بذلوه لخلق إشكالات وطرح أرقام أمام الرأي العام للتعمية على حقيقة الواقع، والتي لا علاقة لها بالأصول، التوجه إلى المجلس النيابي لإقرار مشروع قانون بفتح اعتمادات إضافية للإنفاق، وهي النقطة التي لم يستطيعوا الرد عليها لغاية الآن». وشدد على أنّ «التهويل لن يثني وزير المال عن الالتزام بالموقف القانوني أو يحمله على التراجع عنه، ولا سيما أنّ محاولة المس بالحقوق المكتسبة للموظفين والعاملين في القطاع العام بالرواتب والأجور والزيادات المكتسبة لهم ينسجم مع تعطيلهم لإقرار السلسلة». ووعد بمخاطبة الرأي العام «لتبيان الحقائق أمامه مطلع الأسبوع المقبل».
(الأخبار)