قبل كلمة الحريري في إفطار أمس، كانت الرسائل المباشرة وغير المباشرة تتوالى من عنده صوب الرابية. مجموعة من القراءات والتحليلات التي تؤكد على إيجابية العلاقة بين عون والحريري، مع تفنيد لسلسلة الإيجابيات التي تحققت بفضل هذا الخط المفتوح، قبل أن تعرض للجهود الهائلة التي يبذلها الحريري من منفاه الطوعي، لتلاقي وسط الدرب مع الجنرال المنفي قسراً سابقاً. واللافت أن كل ما في تلك الرسائل صحيح، حقيقي، موضوعي ودقيق.
وهو ما تحرص الرسائل الحريرية على استعادته بنداً بنداً، لا لتنشيط الذاكرة وحسب، بل كمن يستذكر الأزمنة المؤسسة لحالة عشق، في لحظات أزمات الأحبة. وهو ما يمكن سرده كالآتي:
أولاً، التأكيد على استخلاص العبر من الصراع العبثي والمجاني بين الطرفين طيلة الأعوام التسعة الماضية. بحيث بنتيجتها، لم يمكث الحريري في الحكم غير أقل من 15 شهراً. لم يصدر خلالها 15 قراراً فعلياً حتى. في المقابل شارك عون في الحكم طيلة ستة أعوام، وكانت مشاركته راجحة على مدى نصفها. لكن إنجازات تلك المشاركة كانت أقل من أسابيع قليلة من فصل العسل الحريري العوني.
ثانياً، ليس تفصيلاً ولا غير ضروري إعادة قراءة جردة ما تحقق في ذلك الفصل السعيد: الحكومة، البيان الوزاري، التعيينات (والطرفان يدركان كم كانت مجدية مجزية ومثمرة!)، الخطط الأمنية... قبل أن يدخل وليد جنبلاط على الخط، بحسب الرسائل نفسها.
ثالثاً، وفي السياق نفسه، يحرص المرسلون على إيراد بعض من مقتطفات الحوارات الباريسية بين الحريري وكل من جعجع وجنبلاط. وذلك لتأكيد كم كان المضيف منصفاً حيال عون في غيابه، وكم كان صادقاً في إعادة مراجعته لحقبة كاملة من تموضعه السياسي الداخلي. قال لجعجع: لن أقطع خطوطي مع الجنرال بعد اليوم. فهذه هي الخطوط الوحيدة التي أعطتني في السياسة، من دون أي مقابل كان في أي مجال كان. وقال لجنبلاط: أنت من نفاني مرتين. وأنت من يريدني «بياضة رؤساء حكومات لبيروت من خارجها»...
رابعاً، تشدد الرسائل الحريرية على تقديم قراءة إيجابية لموقف الزعيم المنفي، من مجمل الأداء السياسي لعون، حتى بعد اصطدام العلاقة بالفيتو السعودي. وتروح تفصل في قراءتها لتلك الإيجابية: 1ــ لم يصدر عن الحريري أي موقف سلبي حيال مبادرة الجنرال لجهة قانون الانتخاب وانتخاب الرئيس من الشعب. وهذا إنجاز كبير في حد ذاته، إزاء الضغوط الهائلة التي تعرض لها الرجل للاشتباك مع عون من موقع «حامي الطائف» في مواجهة محاولة الانقلاب عليه. 2ــ تأكيد الحريري رفضه أي تمديد جديد لمجلس النواب، وإعلانه استعداد فريقه للذهاب إلى انتخابات نيابية. مع التذكير بالتواطؤ الإيجابي الذي حاول تأديته عند ارتكاب التمديد النيابي السابق، عبر المجلس الدستوري. وذلك في غمز من قناة حلفاء عون الذين أحبطوا يومها ذلك التواطؤ. 3ــ التأكيد على استمرار التوافق في ملفات أساسية مطروحة. من السلسلة إلى الإنفاق. وهي، بين هلالين، نقطة يبدو أن التباسات غريبة مريبة تطالها. بحيث لا تبدو قراءاتها متطابقة لدى مختلف أطياف الطرفين! 4ــ التذكير بأن ما يحصل في المواعيد الدورية لانتخاب رئيس الجمهورية، «ليس أكثر من «فولكلور انتخابي» مفروض علينا جميعاً، نأمل أن يكون موضع تفهم وتفاهم من قبل كلينا». وذلك في إشارة إلى استمرار الدعم الكلامي لترشيح سمير جعجع. خامساً وأخيراً، ضرورة استمرار التعاون القائم، وإكمال الاستثمار في الإيجابيات المذكورة، مع إعطاء الوقت للوقت من أجل معالجة العقد المستعصية.
هكذا تحاول الرسائل الحريرية إلى الرابية تلخيص حالة مرسلها ووضعيته الداخلية والخارجية. وهو ما تميل الرابية فعلاً إلى تصديقه. لا بل إن جهات دولية كبرى معنية بالأزمة اللبنانية، ومواكبة وراعية تحديداً للعلاقة العونية ـــ الحريرية، تزكّي ذلك التصديق وتؤكده: «سعد صادق في موقفه منكم. لكنه لم يتمكن من التنفيذ».
ماذا يعني كل هذا الكلام؟ أين تصرف تلك الإيجابيات وكيف تقرّش تلك الرسائل؟ يسأل كثيرون، خصوصاً أن الاستحقاقات بدأت تدهم، وتتجه نحو حسم الالتباسات وفرز القوى والمواقف. الحرص على الطائف، والتوجه الإيجابي نحو الرياض ــ ولو من طرف واحد ــ جسدهما ميشال عون في رسالته الثلاثية إلى اللجنة العربية الضامنة لتنفيذ وثيقة الوفاق الوطني. وهي رسالة ينتظر أن تكون المهل المنطقية لانتظار الأجوبة عليها محدودة. واللاجواب سيكون مرادفاً للسلبية. بعدها تصبح الخطوات الضرورية لمواجهة الاستحقاقات المحلية واجبة ومفروضة. قانون الانتخاب سيتحرك بعدها. موقف حلفاء عون من الملف واضح في التأييد السابق والمستمر. ورئيس المجلس النيابي سيكون مستعداً للدعوة إلى إدراج الموضوع على جدول جلسة تشريعية. ما سيكون موقف الحريري عندها؟ بعده استحقاق نهاية ولاية المجلس. ومبدأ الرئيس بري في النصاب الميثاقي للجلسات سيكون تحدياً واضحاً للحريري. فهل يؤمن نصاباً سنيّاً لتمديد نيابي يقول إنه يرفضه؟ أم يحاول كسر الحلقة الفراغية بخطوات تهدف أساساً إلى حماية الطائف والميثاق والوطن؟ هذا فضلاً عن المعطيات الخارجية الأكثر تعقيداً، والأكثر خطورة وتفجيراً، وضغطاً على الحريري نفسه قبل سواه.
رسائل الحريري إلى الرابية حول مواقف اللحظة والتموضع الراهن تبدو جيدة. لكن هل تكفي لتطورات الغد ومفاجآته؟!