احتل فيديو نشره موقع «يا صور» الإلكتروني، تحت عنوان «جريمة بحق الإنسانية والطفولة» أمس مئات الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، طاغياً على أخبار غزة والموصل. الفيديو، ومدته دقيقتان، يصوّر طفلاً سورياً في التاسعة من عمره، يتعرّض للضرب بالعصا من قبل طفل آخر في الثانية والنصف من العمر، وسط تشجيع عدد من الفتيان المحيطين به.
كان هذا في الصباح. مع تقدّم ساعات النهار، انتقل الفيديو من موقع «يا صور» إلى عدد من المواقع الإلكترونية تحت عناوين أخرى. على موقع «القوات اللبنانية» كان العنوان «عندما يعنّف الطفل عباس طفلاً بتحريض من الأهل»، وعلى صفحة «الهيئة العامة للثورة السورية» كان العنوان: «مقطع الطفل «عباس» وهو يضرب طفلاً سورياً»، وغيرها من العناوين المفرطة في مذهبيتها التي نتحفظ عن ذكرها هنا، لكنها باتت تشكل عنواناً أساسياً لمحرّك البحث «غوغل».
صاحبت هذا الفيديو مئات التعليقات تراوحت بين الأسف، التنديد والاستنكار، وصولاً إلى الشتائم المذهبية والتهديد. وجرت دعوات من قبل «الغيورين» على الطفل المعنّف إلى عمليات البحث عن هوية الأهل، واتهامات لهم بالتخلّف والجهل، ودعوات إلى سحب رعاية ابنهم من بين أيديهم، كما فعل وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس، في حين توعّد وزير العدل عبر تغريدة له على موقع تويتر «باتخاذ الإجراء المناسب في شأن الفيديو الذي يظهر تعرض أحد الأطفال للضرب»، ما فتح الباب لتعليقات تكشف حدة الانقسام اللبناني.
وتصاعدت الحملة مع نشر صورة لشاب قيل إنه الوالد، فعنونت «النهار» الجريدة العريقة الصورة بالقول: «إليكم صاحب العضلات المفتولة ... والد عباس» وإن نسبت «صحة» الصورة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، في حين حرص موقع «تلفزيون الجديد» الإلكتروني على أن يمهر صورة الوالد المزعوم بعبارة (خاص الجديد)، قبل أن تنكشف الهوية الحقيقية للوالد وتُحَدَّث المعلومات وكأن شيئاً لم يكن. ومع جلاء الحقيقة وظهور الوالد الحقيقي على شاشة «الجديد»، سحب الكثيرون تعليقاتهم وعنترياتهم، إلا أن صورة «الوالد المفتول العضلات» لا تزال موجودة على صفحة فنانين سوريين مشهورين، وتحتها ترد مئات التعليقات المشينة.

أوقف شخصان
هما والد الطفل عباس وفتى من أقاربه

حصل كلّ هذا، وأكثر، فيما سكان حيّ «الرمل العالي» على أطراف طريق المطار القديم يمارسون يومياتهم «يا غافل إلك الله». حتى أول من أمس، لم يكونوا يعرفون شيئاً عن الفيديو، ولا عما ارتكب بحق الطفل السوري خالد النعسان (9 أعوام).
في الحيّ المحاط بالتدابير الأمنية، خوفاً من التفجيرات، يعيش عشرات السوريين واللبنانيين معاً. يقيمون في «عشوائيات»، يحزنهم أن يسميها الإعلاميون كذلك. بناية بأكملها يقيم فيها سوريون تهجّروا من بلدهم، وشقق متفرقة تؤوي عائلات تبحث عن قوت يومها وتتابع أخبار بلادها بألم وقلق. ينفي من التقيناهم من اللبنانيين حصول أي مشاحنات في الحيّ على خلفية «لبناني ـــ سوري»، لكن السوريين الذين تجرأوا على الحديث يؤكدون تعرّضهم لمضايقات وإهانات «ارجعوا ع بلدكم، فلّوا من هون...». وهي حركات «يقوم بها الصغار، للأمانة لم يتعرّض لنا أي شخص راشد بهذا النوع من الكلام» تقول إحدى السيدات. لكن لدى السؤال عن خالد، في محل الخضر الذي كان يعمل فيه، تجيب سيدة كانت في المكان «لماذا فعلوا معه ما فعلوه؟ لأنه سوري». في حين يرفض صاحب محل الخضر الحديث عن الموضوع. يكتفي بالقول إن خالد كان يساعده خلال النهار. لا دوام محدّداً له، وإلا لما كان رافق الأولاد إلى المصطبة حيث تعرّض إلى ما تعرّض له من ضرب وإهانة.

«لعب ولاد»

على بعد أمتار من محل الخضر، يقع منزل محمد الطفيلي حيث صوّر الفيديو. يعرّف عن نفسه بأنه قريب لأحمد، والد عباس، ولحسين المحرّض على هذا الفعل. ويبادر إلى القول إن أحمد غير موجود (فهو موقوف لدى القوى الأمنية)، وإنه قرّر بوصفه كبير العائلة عدم السماح لأحد بالحديث مع الإعلام. لكنه لا يصمّم كثيراً على موقفه. «ما أنا حابب أحكي» يضيف بضيق. نجلس في المكان نفسه الذي صُوّر فيه الفيديو، ومعنا شقيق عباس الكبير، لنستمع إلى روايتهما لما حصل.
يؤكد محمد أن أحداً من العائلة لم يكن يعرف قصة الفيديو إلا مع انتشاره «وشعورنا بأنه سيتسبّب بحرب عالمية». يستنكر ما حصل، لكنه يصفه بـ«الولدنات»، محمّلاً المسؤولية لفتى اسمه حسين الطفيلي ( 16 عاماً) ويؤكد أنه هو من سلّمه إلى القوى الأمنية فجر أول من أمس.
لكن ما الذي حصل، ولماذا فعل حسين، ومن معه، ما فعلوه؟
خلاصة الرواية هي الآتية: «يُعرَف حسين في الحيّ بتصرّفاته الصبيانية. وذلك اليوم جمع أبناء عمومته، بعدما اصطحب خالد من محل الخضر الذي يعمل فيه ودفع له ألفي ليرة لكي يوافق على تمثيلية ضربه وتصويرها». وفي حين يطلب شقيق عباس من الجميع إعادة مشاهدة الفيديو لملاحظة أن خالد لم يكن يبكي بشكل جدي، وأن القصة كلّها كانت عبارة عن «لعب ولاد»، يطلّ طفل في السابعة من العمر برأسه من البيت ويقول بحزن: «كان عم يلعب معنا وأخذ منّا ألفي ليرة»، مؤكداً أنهم كانوا يلعبون معه دائماً ولا سبب يدفعهم إلى ضربه.
لا تعرف العائلة كيف تسرّب الفيديو المصوّر. يقول شقيق عباس «ما أعرفه أن حسين وضع هذا الفيديو على صفحته الفايسبوكية، كما أنه موجود معه على الهاتف». أما محمد فيؤكد أن الفيديو أخذ حجماً أكبر من حجمه وحمّل ما لا يتحمّله «أمي سورية، وزوجة أخي سورية، ولم نفكّر يوماً بطريقة عنصرية». برأيه أن ما ارتكبه حسين وبقية الأولاد بحق خالد كان يمكن أن يرتكب بحق أي طفل آخر، بغض النظر عن جنسيته.

العيش بهدوء

لا نحتاج إلا إلى قطع الطريق لكي نصل إلى المنزل الذي تقيم فيه عائلة خالد. نعرف أنها غادرته خوفاً من غضب الجيران بعد الإطلالة التلفزيونية لها أول من أمس، واتهامها بأنها ذكرت أسماء أشخاص لم يكونوا موجودين أصلاً. في الشقة المواجهة، تقيم جدة خالد وخالته. الغرفة التي ندخل إليها خالية إلا من حصيرة من القش وفراش اسفنجي. لكن الجدة اختارت الجلوس على البلاط لتحظى ببعض البرودة في هذا الطقس الحارّ. هي وابنتها لم تعرفا بما تعرّض له خالد إلا بعد بثّ الفيديو أول من أمس في نشرات الأخبار. اتصلّ بهم المعارف وأخبروهم بأن خالد ظهر على الشاشة، وإلا لم يكن أحد في المنزل ليعرف. لا تقنعهما رواية «التمثيلية» وأن يكون خالد قد تقاضى لقاء لعب هذا الدور، رغم ذلك تعلّقان بالقول: «ما علاقتنا نحن؟ هم ضربوا الولد، وهم صوّروا فعلتهم، وهم نشروها».
يشي كلامها بخوف من قول ما قد تحاسَب عليه لاحقاً من قبل الجيران، لكنها تنفي أن تكون قد تعرّضت هي أو ابنتها (أم خالد) لأيّ تهديد. «نحن لاجئون، وأقلّ العالم، ولم نتعرّض لأحد. لا نريد إلا العيش بهدوء ومن دون مشاكل»، تقول الجدّة.
يحتاج الأمر إلى وقت، تطمئن فيه السيدتان، قبل أن تفتحا قلبهما وتحكيا عن ذلّ التهجير وعن الوضع الذي يعيشون كلاجئين في ظله. تشعران بأنهما تعيشان في بيئة «لا تطمئن» وخصوصاً بعد الذي حصل. وهما رغم التطمينات التي تلقتاها لا تخفيان قلقهما من أن يتعرّض لهم أحد إذا «لم تنته الأمور على خير». في النهاية، «لا علاقة لوالد الطفل بشيء» تقولان. مع انتشار الفيديو، والتوظيف المذهبي الذي صاحبه، باتت عائلة الطفيلي تخشى من التنقّل في لبنان «أحمد والد عباس يتنقّل بين المناطق ويقصد طرابلس كثيراً. ما حصل لن يجعلنا مطمئنين».
أما عائلة خالد، فباتت قلقة، تفكر في الرحيل من الحي الذي تقيم فيه منذ سنتين إلى مكان آخر. لكن إلى أين، في ظلّ هذا الواقع الاقتصادي والأمني؟
وحدهم المطمئنون، هم أصحاب الأحكام المسبقة. الذين يبحثون عن الحلول السهلة. فلا يطرحون على أنفسهم أسئلة عن السبب الذي يدفع فتى في السادسة عشرة، يقيم في حيّ شعبي، إلى إهانة طفل وإذلاله بهذه الطريقة. ولا عن السبب الذي يجعل من السوري الضحية الدائمة للعنصرية اللبنانية. والأهم: عن المستقبل الذي نسير إليه، في خضمّ كلّ العنتريات التي أتحفنا بها أمس.